بقلم: د.أيمن الجندي |
الوضع كان هكذا: منذ عدة سنوات كنت عائدا لمنزلى فى وقت متأخر من الليل، وبينما كنت أعبر الشارع الرئيسى فى مدينة طنطا(اسمه الرسمى شارع الجيش، ويسميه أهل المدينة شارع البحر)، وجدت حركة إصلاح دائبة، وعملية رصف، وأنواراً تومض وتنطفئ، وتواجداً عماّلياً كثيفاً. أدهشنى المشهد لأسباب عديدة: أولا منذ متى هذه الحمية فى إصلاح المدينة؟، طنطا المدينة المنكوبة التى لم يأت إليها محافظ واحد يتقى الله فيها. سكنتها معظم عمرى، وأستطيع أن أشهد- وضميرى مستريح أمام الله- أن يد الإصلاح لم تمتد إليها بصورة جدية قط، والأرصفة المهشمة التى كنت أشاهدها وأنا فى طريقى للمدرسة الابتدائية لم تزل على حالها منذ هذا التاريخ، وأضيف إليها الكثير بفعل الزمن والإهمال. وبرغم ذلك- سبحان الله!!- هى وش السعد عليهم. ومع أنهم يتركونها تلالا من القمامة فإنهم يترقون إلى الجيزة مباشرة! والسبب الثانى أننى عبرت نفس الطريق منذ ساعتين، ولم يكن هناك تمهيد لعملية رصف. لا توجد عندى خلفية هندسية ولكنى أعرف بالفطرة أن رصف الطرق يسبقه إجراءات معينة، كشط الشارع مثلا، ثم إضافة أشياء سوداء غامضة تحتوى على زلط. هذه أول مرة- فيما أذكر- أشاهد عملية رصف بلا بنية تحتية. توقفت فى فضول ورحت أفكر، وفجأة جاءنى الحل كإلهام مفاجئ، لكنه نزل على رأسى كالصاعقة. حديث عابر سمعته منذ أيام عن زيارة مرتقبة لقرينة الرئيس لافتتاح مشروع اجتماعى، لا أدرى ما هو بالضبط لأننى لم أهتم وقتها باستقصاء الخبر. إذا فالذى يحدث أمامى من رصف إنما هو- فى حقيقته- لمسة فنية باللون الأسود تبيض وجهه وتسود أيامنا! ما زلت أذكر الذى اعترانى وأنا واقف فى الطريق. لست ابن الأمس ولا غرا ساذجا، وأفهم بوضوح حقيقة الحياة المصرية. وأننا عبيد لمن غلب، أكلنا الخبز (بالجُبن)، ورضعنا الخوف مع اللبن. لكن هذه اللحظة، لا أدرى لماذا شعرت بالأمر بشكل مختلف!. فى نهاية يوم عمل طويل، وأنا منهك عليل، وكل ذرة فى جسدى متعبة، تنادى بحقها الغريزى فى النوم، لا أدرى حقا ماذا اعترانى. فجأة: وجدت الدموع تملأ عينى، لا هى تجف ولا هى تنهمر، وشعوراً بالإهانة يكتسحنى كأنه قىء مفاجئ. كان ما يحدث أمامى رسالة قصيرة بليغة صامتة من سيادة المحافظ، رسالة تقول: ولائى للسادة الذين وضعونى فى هذا المنصب، من أجلهم أسهر حتى هذا الوقت من الليل. أما أنتم يا عامة الشعب، يا من تعملون وتدفعون الضرائب، وتعودون لبيوتكم فى أوقات متأخرة، فمكانكم الطبيعى أن تخوضوا فى المجارى وتشاهدوا القمامة وتعبروا الشوارع غير المرصوفة، وتتعثروا فى الأرصفة المهشمة. أما سادتى، أولياء نعمتى، وبرغم أنهم سيأتون فى الطائرة إلى الإستاد رأسا، ولن يمروا على الشارع الرئيسى أصلا، فإننى يجب أن أحتاط لجميع الاحتمالات، لأن هؤلاء السادة، ذوى الدم الأزرق، المنعمين بلا حدود، الذين يمنحون ويمنعون، لا يليق أن تصطدم عيونهم بشىء يعكر الصفو أو يبدد الانبساط. أنتم غير موجودين على الإطلاق بالنسبة لي. اللهم إلا فى حالة واحدة: صلّوا من أجلى، ادعوا لى بكل قواكم، أن (تعدى) الزيارة على خير، ويجعل العواقب سليمة. مصيرى- يا أبناء الأبالسة- معلّق بأوهى الأسباب، بأشياء قدرية تحدث فى الليلة السابقة، بنوم جيد أو سيئ، بمزاج سليم أو عليل. ناموا أيها الملاعين ملء جفونكم، أما أنا فقد يضيع مستقبلى غدا بسبب صداع مفاجئ، أو فتور للحياة!. مصيبة لو لم يناموا جيدا. الساعة الآن الثانية بعد منتصف الليل. يا رب أرسل النوم إلى جفونهم، وأدخل السرور على قلوبهم، يا رب يناموا مرتاحين ويصحوا مبسوطين. .............كان الوقت يمضى، والليل يوغل فى الظلام، وأنا واقف على جانب الطريق أتلقى الرسالة. أتلقاها بقلبى، بعقلى وروحى، بنفسى وجوارحى، أتلقاها بكل خلية فى جسدى. مهانا بلا سبب، منبوذا بلا سبب، مذبوحا من الوريد إلى الوريد. عاجزا عن الانصراف، أو رد الإهانة، أو تجفيف البصقة الملتصقة بوجهى. |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا |
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا |
تقييم الموضوع:
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |