بقلم: هانى رمسيس
قال لى صديقى :
ليلتها... لم يخطئ الموسى طريقة ... نزل ولأول مرة على صدرى. ليلتها... كان كل شيئ يبدو مختلفاً ... الأنوار أكثر توهجاً ... حفيف الأشجار أحدّ ...رائحة النسيم من جوف البحيرة أعمق... مذاق الطعام زاعق ... وملمس الأشياء أكثر حساسيةً ... كلماتُ الواعظ تتجاوز الآذان لتتخلل العظام وتخترق الأنسجة .
ليلتها ... لم أكن قلقاً ، لكن جواً من القلق حوُّط بى ."
" صباحها ... كان صباحاً ضبابياً ... علقت قطراتُ الندى على زجاج السيارة .
صباحها ... كلما قابلت شخصاً أعرفه قال لى متأثراً أو قلت له ضاحكا :(اليوم أقف على الجانب الآخر من المنضدة ... اليوم أمشى فى حذاء الآخرين .)
صباحها... دارت وتكررت الأسئلة والضحكات القلقة من حجرة لأخرى ... حتى وصلت إلى مطافها الأخير حيث الغرفة التى تحمل رقم ( 61) .
أعرفها وألفتها جيداً، بأنوارها البيضاء القوية وأجهزتها الكثيرة المعقدة .... هنا تقف المنضدة فى الوسط ،يعلوها الكشافات قوية الضوء سهلة الحركة ، حين يتمدد عليها المريض يكون على يمينه عند رأسه شاشة كبيرة ، تعكس كل ما يعتمل فى أجهزته البيولوجية ، وتقيس كل العلامات الحيوية ...بينما يقف جهاز أكثر ضخامة وتعقيدا ً يجاور نهاية الزراع الأيمن، يعلن أنه الأهم بين كل هؤلاء، فهو يقوم بوظيفة استثنائية لمدة سويعات قليلة ... وعند رأسه من الخلف شاشة أخرى ، وأعمدة معدنية يتدلى منها أسلاك وأنابيب مختلفة الحجم ، خارجة من أوعية اسطوانية مليئة بالمحاليل ، وبالون ذو حركة رئوية يتصل بـ (ماسك) ... عند أقصى اليسار بعيداً لوحة مثبتة على الحائط عليها اسم من يرقد على المنضدة وتاريخ ميلاده ونوع الجراحة ، واسم الجراح الأول ... عند القدمين مئات من الأدوات المعدنية الصغيرة ،على منضدة مثبتة على قاعدة خشبية، يقف عليها من يتعامل مع تلك الأدوات المعقمة معاملة المقدس.
أعرفها وألفتها جيدا بقدسيتها وخشوعها ... برائحتها وألوانها ... بملابسها ... بنظامها وحركتها ... بالخوف الذى يلف جدرانها والأمل الذى يغلف حوائطها. "
" كنت ُمُمدداً على ظهرى ، بينما الآيادى حولى ، على ظهر رسغ يدى اليسرى غُرست إبرة ، وفى ساعدى الأيسر إخترق خيط معدنى رفيع أحد الشرايين .. الحركة دءووبة والأحاديث سريعة ... وها هو رئيس فريق التخدير يطلب منى أن أعتدل جالساً على المنضدة .. وبيدى اليمنى الطليقة أحمل ما قدمه لى ، كوباً صغيراً به سائل لأشربه فإذ به لاذع الطعم ... يأتينى صوت الممرضة فى روتينية معتادة :(الآن سأحقن بعضا من أدوية ، لتسترخى وتنام) ، أوافقها بروتينية أيضاً، وأنا أمد يدى بالكوب فارغاً ليتلقفها مساعد فريق التخدير ذو الملامح الآسيوية...وبينما العقاقير بدأ تأثيرها ... مُعرّفاً نفسه ، يقبضُ على أصابعى التى بدأت فى الضعف ... أبدأ فى العود مستلقيا ممدداً ... وما أن تركتُ قبضة الطبيب ... أقبض بيدِِ قوية على قلوب النخيل الصفراء عشية الشعانين ... أغوص فى غيطان القمح وقد اصّفرت سنابلها ... تغطينى ... أواصل السير ...تغمرنى ... أتخيل غولاً يجرى خلفى ... أواصل الجرى حتى أرى نور الشمس ... وقد عُدّتُ ممدداً على ظهرى وسطوة الأنوار فى عينىّ ... يأتينى صليل تلك الأدوات القدسية كحلم ، يقطعه حقيقة رنات جرس الكنيسة محملة على أثير نسيم النخيل ... وأنا فى جلباب ُمقلّم أعبث بهدهد زاهى الألوان ... وبينما "الماسك" يكتم أنفاسى ... أشتم بخور الكنيسة ، أرتل ألحانها ... أتضجّر من طابور المدرسة ... تنزلق قدمى فى إحدى القنوات المائية ... ألهث خائفاً من الكلاب ... أسقط متعباً .. مغشياً عليه .. ينزل الستار الأسود على المسرح ... يصفق الجمهور ... يزداد السواد أمام عينى ... نورالغرفة (61) يخفت ... صور الجميع أمامى مهتزة ... لقد أعلنت الأدوية سطوتها ."
الآن لا أشعر ولا أرى ولا أسمع .. الآن يتساوى ست ساعات بلحظة ، بطرفة عين .
تمرُّ طرفة العين سريعاً..أشعر بإختناق من أنبوب فى حلقى ..أضرب بيدى جوانب السرير.. يضايقنى ما يغزو رقبتى .. يدىّ المقيدة بالسرير تثير حنقى .. يقف على يمينى صديق يعبث بالتليفون .. على يسارى آخر أسمعه ولا أراه .. ما بين اليقظة والنوم .. أنزل بجسمى ليقترب رأسى من يدى اليمنى .. أسحب الأنبوب من حلقى ..أصرخ فى الجميع .. أغبياء .. شئ ما يقتل هذا الألم ."
قال لى صديقى ذلك ، بعد أن إستقرت حالته وتم نقله إلى طابق آخر وغرفة أخرى ، الغرفة (21) من الطابق الخامس .
كنت الوحيد الذى يجالسه ليلاً .. كان الليل بالنسبة له طويلا كئيباً مؤلماً ..يتصبب فيه عرقاً..لذلك كان يخشى الليل ويكرهه .
لقد فشلت النجوم الخمس فى راحته .. فها التليفاز الكبير مغلقاً أمامه .. والكمبيوتر الشخصى مهملا بحانبه .. الطعام كما هو لم يتذوقه .. الحجرة مظلمة الا من لمعان صليب مذهّب مُلصقاً بالسرير على جانب رأسه يميناً .. كان يحادثنى وبين الفينة والأخرى ينظر يمينا إلى النافذة .. أإلى النجوم البعيدة أم المصابيح الناعسة أم إلى قبة الكنيسة القديمة كان ينظر ؟.. أم تراه كان متأملاً فى تلك الزهيرات الصغيرة ؟
ذات ليلة ، وأنا أجلس على اليسار من السرير حيث يرقد ، إلتفت نحوى متنهداً :(يقولون عن الصديق الوفى إنه أقرب إلى القلب ، فماذا عن القلب نفسه؟ ).
قال هذا وراح فى نوم متقطّع .
h_ramsis@yahoo.com |