بقلم: رشدى توفيق عوض دميان
’’ أن تختلق أكذوبة وتصدقها ، فهذه مصيبة كبرى .... ولكن أن تريد غيرك أن يُصدقها ، فهذه هى الطامة الكبرى ‘‘ !!
لا أدرى لماذا تذكرت هذه القصة التى كان قد رواها أحد الآباء الكهنة فى كتاب له ، والقصة كانت عن أحد الخطباء الذين كانوا يذهبون إلى سرادقات العزاء للمشاركة فى تقديم التعزية لأهل المتوفى وذلك بإلقاء كلمة رثاء يعدد فيها مآثر وأفضال الفقيد حتى ولو لم يكن له سابق معرفة شخصية به ؟!
أخذ الخطيب يعدد فى ذكر حسنات الفقيد الذى تصادف أنه كان طبيباً ، وقال أن الفقيد كان يعالجه بدون أن يتقاضى منه أية أتعاب ، كما كان يرفض أن يأخذ قيمة الدواء الذى يعطيه له ؟! وهنا ظهرت علامات الدهشة والإستغراب على وجوه كل الجالسين من المعزيين ، ومنهم من ضحك ، ذلك لأن الفقيد كان طبيباً بيطرياً !!
وتساءلت بينى وبين نفسى لماذا نظل نردد الكلمات والشعارات كالببغاوات ، بدون أن نعرف أو ندرك المعنى أو المقصود من الكلمات ، ولا الهدف أو المضمون للشعارات ، ولا حتى الفرق بين ما هو إطراء ومديح وتقدير وبين ما هو مداهنة ونفاق ومغالطات وتزوير ؟
كلمات منمقة وشعارات رنانة !! وأغانٍ وأناشيد وطنية ظلت تتردد وتسرى سريان النار فى الهشيم بين مختلف فئات الشعب فى مصر وذلك منذ قيام ثورة العسكر التى تعرف بثورة 23 يوليو 1952 !! ودخلت هذه الكلمات والشعارات والأغانى فى قاموس لغة الحياة اليومية فى الشارع المصرى ، كلمات وشعارات وأغنيات وأناشيد لكل ظرف ولكل موقف بحسب ما تقتضيه المناسبة ؟! فعندما قامت الثورة سمعنا وقرأنا كلمات وشعارات القضاء على الإقطاع والفساد والرشوة والمحسوبية ، والإتحاد والنظام والعمل !! وإرفـع رأسـك يا أخى فقد مضى عهد الإستعباد ، ثم الإتحاد القومى والميثاق !! وأثناء العدوان الثلاثى الذى شنته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر بسبب تأميم قناة السويس سمعنا الله أكبر فوق كيد المعتدى ؟! وأخذت المرتزقة فى الهتاف وراء الزعيم قائلة سنقاتل .. سنقاتل .. سنقاتل حتى النصر !! وعند بناء السد العالى - الذى قضى فيما بعد على الأخضر واليابس - سمعنا إن الحكاية لم تكن حكاية السد ولكنها كانت الحكاية اللى ورا السد ؟؟!!
ثم كانت كارثة وحدة مصر وسوريا التى زادت على قاموس لغة الشارع المصرى كلمات جديدة منها الجمهورية ( العربية ) المتحدة !! والقطر الشمالى والقطر الجنوبى !! ومرة أخرى القطر المصرى والقطر السورى ولم يكد المواطن المصرى ينتهى من حفظ أسماء قادة ورجال ثورة العسكر فى مصر ، إلاَّ ووجد نفسه محاصراً بأسماء القادة السوريين أيضاً !!
وفى حقبة الستينيات ظهرت بدعة ما يسمى بالقومية العربية ؟! وجاءت معها كلمات جديدة مثل الأمة العربية والقمة العربية ووحدة الصف العربى والساحة العربية والملوك والرؤساء والقادة العرب يقودون المسيرة من أجل سلام عادل وشامل فى المنطقة العربية !! ثم هذا الكليشيه الذى بات من أدوات ولوازم الكفاح والنضال العربى لأن مجرد التلويح به كان من شأنه أن يلقى الهلع والرعب فى قلوب الدول التى تطمع فى السيطرة على المنطقة العربية ، هذا الكليشيه هو : ( الكلاب تنبح والقافلة تسير ) وأحياناً أخرى ( القافلة تسير والكلاب تنبح ) !!
وأيضاً الكليشيه الخاص بكل الرؤساء العرب : ( بالروح والدم نفديك يا أيها الجالس على الكرسى ) !!
وأخيراً وبالتأكيد ليس آخراً - شِئْنَا أَمْ أَبَيْنَا - هذه الكلمات التى كنت قد قرأتها ضمن نص برقية كان قد أرسلها صفوت الشريف الأمين العام للحزب الوطنى الحاكم ورئيس مجلس الشورى فى مصر للرئيس محمد حسنى مبارك رئيس الجمهورية بمناسبة ( إشراقة ) ؟!! عام جديد على رئاسته ، هذه البرقية كانت قد نشرتها الصحف المصرية والعربية بتاريخ 25 سبتمبر 2009 يدعو فيها ( المولى ) ويطلب منه أن ( يحقق على يديه ) وفى ( ظل قيادته الوطنية الصادقة ) ما يصبـوا إليه ( شعب مصر العظـيم ) من ( تقدم ورفعة وإزدهار ) وأن ( يبارك خطاه ) ( أميناً ) على ( مقدرات الأمة ) و ( قائـداً لمسيرتها ) و ( مدافعـاً عن أمـلها وإستقرارها ) و ( حارساً على قيمها ومبادئها ) وأن ( يبارك مسعاه من أجل تحقيق السلام ) ( العادل والشامل ) فى المنطقة العربية ، وفى جميع أنحاء العالم .
أفهم أن معظم الكلمات التى جاءت فى مقدمة البرقية هى فى صميم قاموس اللغة المقررة على الحياة اليومية فى الشارع المصرى ، ولكننى توقفت عند الجملة الأخيرة ( وحارساً على قيمها ومبادئها ، وأن يبارك مسعاه من أجل تحقيق السلام العادل والشامل فى المنطقة العربية وجميع أنحاء العالم . ) ؟؟!!
وهنا أجدنى متحيراً ولا أستطيع أن أفهم ماهيَّة هذه القيم والمبادئ فى نظر الأستاذ صفوت الشريف وأتساءل :
o أين هى القيم والمبادئ التى يحرسها ؟! وما هى هذه القيم والمبادئ ؟!
o أين كانت هذه القيم والمبادئ عندما نُهِبَتْ وسُرِقَتْ البلايين من أموال البنوك التى هى مِلْكٌ للدولة وبالتالى هى فى الأساس مِلْكٌ لدافعى الضرائب وهم الفئة من الشعب المغلوبة على أمرها ؟! هذه الأموال التى نهبها وسرقها كل من هَبَّ ودَبَّ ، والقضايا التى تنظرها المحاكم المختصة بالنظر فى جرائم الأموال العامة قد أصبحت أكثر من الهم على القلب !!
o أين هى القيم والمبادئ مع إزدياد معدلات نسبة الجرائم ، هذه المعدلات التى تؤكدها الدراسات العلمية والميدانية التى يجريها المركز القومى للبحوث الإجتماعية والجنائية فى القاهرة ، علاوة على إزدياد معدل الجرائم التى من أهم أسبابها هو الفقر والجوع نتيجة إنخفاض الدخل وإرتفاع أسعار المواد الغذائية فى نفس الوقت ، هذا غير جرائم القتل والإنتحار والجرائم الجنسية مثل جرائم الإغتصاب الجماعى وهتك العرض ، بالإضافة إلى الجرائم المنظمة التى تهدف إلى خطف الفتيات المسيحيات القاصرات لإجبارهن على الإسلام بعد أن يتم إغتصابهن وتهديدهن بالفضائح والتشهير بهن ؟!
o أين هى القيم والمبادئ فى تجاوزات أفراد الشرطة بدءاً من أصغر الرتب إلى أعلاها ، هذه التجاوزات والإنتهاكات التى فاقت كل تصور وكل الحدود فى تعذيب المعتقلين السياسيين والجنائيين وحتى الذين لم تثبت عليهم أية إتهامات أو من الذين ليس لهم أحد من كبار المسئولين لكى يحتمون به ؟!
o أين هى القيم والمبادئ عندما تُغْمِض مباحث أمن الدولة عينيها وتسد أذنيها ولا تحرك ساكناً أمام شكاوى الآباء والأمهات المكلومين بسبب خطف بناتهم وإختفاؤهن ولا أحد يعرف لهن مكاناً ؟!!
o أين كانت القيم والمبادئ التى يحرسها الرئيس عندما نفذ أفراد الجماعات الإرهابية هجماتهم الوحشية وهم يهتفون ( الله أكبر ) على الكنائس والأديرة ومنازل المسيحيين الأقباط ومحلاتهم فى مختلف أنحاء الدولة ، وقتلت منهم النساء والشيوخ والأطفال وسحلت جثثهم فى الشوارع ؟؟!!
o ما هى القيم والمبادئ التى يراعيها السادة الوزراء والمحافظين وأعضاء مجلس الشعب ، فقد كان منهم من سرق من أموال الدولة ما لم يسرقه ( قاسم شقيق على بابا وزعيم الأربعين حرامى ) !! ومنهم من كان من كبار تجار المخدرات !! ومنهم من كان يستورد الأغذية الفاسدة التى قتلت وأبادت من المواطنين ما لم يبيده وباء الكوليرا ولا الطاعون !! بل ومنهم من هو قاتل أو على الأقل قد حرَّض ( غَيْرَهُ ) على القيام بعملية القتل نيابة عنه ، والأدهى والأمَّر من ذلك أن هذا ألـ ( غَيْرَهُ ) كان من كبار رجال الشرطة الذين من أهم واجباتهم هو حماية ممتلكات وأرواح الأفراد وتأمين سلامتهم !!
هذا فيما يخص القيم والمبادئ ، أما عن تحقيق السلام العادل والشامل ، فإذا صدقنا جدلاً أن المولى سوف يبارك مسعى الرئيس لتحقيق هذا السلام العادل والشامل فى المنطقة العربية ؟! فهل هو ( المولى ) سوف يبارك فى مسعاه لتحقيق السلام ، وأيضاً العادل والشامل فى العالم أجمع ؟! ثم لماذا الإصرار على أن يكون السلام عادلاً وشاملاً فى نفس الوقت ؟! ألا يكفى أن يتحقق السلام أولاً ثم يجئ العدل والشمول بعد ذلك ؟!
أعتقد أن الخطيب الذى ألقى خطبة التأبين فى سرادق العزاء لم يكن كاذباً عندما قال أن الطبيب البيطرى كان يعالجه !! فأنا لا أجد غضاضة فى أن يعالج الطبيب البيطرى مريضاً من البشر كما يعالج الحيوانات طالما أن الرئيس يحرس القيم والمبادئ ، ويسعى لتحقيق السلام العادل والشامل ، ليس فى المنطقة العربية فحسب ولكن فى العالم أجمع أيضاً !!
ويا عزيزى الأستاذ صفوت الشريف ....
هناك مقولة عن الحديث أرجو أن تعيها جيداً ، هذه المقولة هى : ’’ الكذب هوآفة الحديث ‘‘ !!
ويا عزيزى السيد الرئيس ، أود أن أسوق لك هذا المثل العربى :
’’ إذا سمعت الرجل يقول فيك من الخير ما ليس فيك ، فلا تأمن أن يقول فيك من الشر ما ليس فيك . ‘‘
وذلك فى حالة عدم إشراقة عام جديد ( لا سمح المولى ولا قدَّرْ ) !!
email: dr.r.a.demian@hotmail.com |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|