بقلم: د.محمد مسلم الحسيني
أجتمع قادة أوربا في جلسة عشاء مساء يوم الخميس المصادف 19/11/2009م في مدينة بروكسل في بلجيكا من أجل إنتخاب أوّل رئيس للإتحاد الأوربي. وبعد الأخذ والرد والبسط والشد وقع الإختيار على إنتخاب السيد " هيرمان فان رامبوي" كأول رئيس للإتحاد الأوربي. وكان قبل ذلك قد تمت مصادقة كافة الأعضاء الـ (27) في دول الإتحاد الأوربي على ميثاق لشبونا المحسن وكان آخرها جمهورية التشيك. لقد كانت الرئاسة الأوربية تسير بشكل دوري بين دول الإتحاد الأوربي، أي أن كل ستة شهور يتسنم رئاسة الإتحاد الأوربي رئيس دولة أو رئيس حكومة من دول الإتحاد الأوربي الـ "27". أما اليوم فأوربا سيقودها رسميا رئيس ثابت لفترة سنتين ونصف قابلة للتمديد مرة واحدة وذلك حسب المادة(15) من دستور الإتحاد الأوربي. رغم أن الصلاحيات الدستورية المناطة للرئيس الأوربي لا تتعدى ، في الغالب، دور الرمز والواجهة البروتوكولية أمام الخارج، إلاّ أن هذا يعتبر إنجازا معنويا كبيرا لأوربا وهي تتقدم بخطى واثقة نحو التقارب والتعاون والتفاهم والإلتئام.
من هو "هيرمان فان رامبوي"؟
إنه رئيس وزراء بلجيكا الحالي الذي تسنم رئاسة الوزارة في بلجيكا مطلع هذا العام بعد أن كلّفه ملك بلجيكا " ألبيرت الثاني" بذلك. وقد كان هذا إثر إستقالة رئيس وزراء بلجيكا السابق "إيف لوتيرم"، الذي إستقال من منصبه على خلفية أزمة سياسية نشأت بسبب تدخل مزعوم للحكومة في شؤون القضاء البلجيكي وعلى خلفية مشكلات حصلت أثناء الأزمة المالية التي كادت أن تطيح بأكبر البنوك البلجيكية " فورتيس" .
ولد رئيس أوربا الأول في عام 1947م في منطقة "إتيربيك" في العاصمة البلجيكية بروكسل من عائلة فلمنكية أي تتكلم اللغة الفلمنكية المشابهة تماما الى اللغة الهولندية. كان والده مدرسا لعلم الإقتصاد مما جعل الأبن يسير على خطى أبيه ، حيث حصل السيد فان رامبوي على شهادة الليسانس في العلوم الإقتصادية من جامعة لوفان الكاثوليكية في بلجيكا عام 1971م بدرجة إمتياز. كما أهتم هذا الرجل في دراسة الفلسفة والشعر وصار يكتب الشعر ويتذوقه، إضافة الى إهتماماته في دراسة اللغات العالمية حيث تعلم الكثير من اللغات الأجنبية المعاصرة كاللغة الإنكليزية والفرنسية والألمانية والهولندية والأسبانية والإيطالية وغيرها من اللغات الأوربية الأخرى إضافة الى اللغات القديمة كالإغريقية واللاتينية.
أما شخصية "فان رامبوي" فهي شخصية هادئة متزنة ناضجة، إستطاع من خلالها مسك ناصية الأمور السياسية الصعبة بهدوء وسكينة في كل مراحل حياته السياسية. من يتعرف على فان رامبوي يجده متواضعا ، خجولا ، إنعزاليا ومنغلقا على النفس، حيث أنه إن ركض دبا وإن ضحك تبسم وإن تكلم معك فعليك أن تقترب منه لتسمع ما يقول! لا يحب الأضواء وهي تسقط عليه ويفضل البقاء مع زوجته في داره لتناول وجبة العشاء بدلا من المطاعم الفاخرة الغاصة بالذوات والنجوم. تداعبه دائما زوجته وأم أطفاله الثلاثة وتسميه " رامبو"!.
حياته العملية والسياسية:
رغم أهتمام السيد فان رامبوي بالسياسة منذ صغره إلاّ أن ذلك لم يمنعه من ممارسة حياته العملية بنجاح،حيث عمل بعد الإنتهاء من دراسته الجامعية مباشرة كملحق في دائرة البحوث والدراسات في البنك الوطني البلجيكي. ثم بدأ في تدريس مادة الإقتصاد في المعاهد العليا البلجيكية. إنضم الى الحزب المسيحي الشعبي في فجر شبابه وأختير نائبا لرئيس الحزب فرع الشبيبة عام 1973م. تسنم مناصب كثيرة في هذا الحزب منها رئيس شعبة البحوث في الحزب ورئيس محلي لمنطقة تجمع "بروكسل فلفورت هال"، حتى إنتخابه رئيسا وطني للحزب بين عامي 1983 و 1993م. لقد إتحد الحزب المسيحي الشعبي مع الحزب الفلمنكي عام 2001م لينشأ حزب جديد سمي بـ " الحزب الديمقراطي المسيحي والفلمنكي".
شغل فان رامبوي مناصب رسمية مهمة في الحكومات البلجيكية المتعاقبة كان أبرزها حقيبة وزارة المالية عام 1993م. ثم أصبح نائبا لرئيس الوزراء في حكومة رئيس وزراء بلجيكا الأسبق " جان لوك دوهان" حتى عام 1999م، حيث سقطت الحكومة على خلفية ضجة شعبية كانت قد حصلت بسبب مأزق تسمم الدجاج البلجيكي بمادة الـ "دايوكسين" السامة التي قد تؤدي الى تحفيز السرطانات عند البشر بعد تناول اللحوم الملوثة بهذه المادة.
لم يمكث هذا الرجل طويلا خارج حلبة مؤسسات الدولة السياسية ، حيث أنتخب عضوا في مجلس الأعيان البلجيكي وحصل على لقب وزير دولة فخري بين عامي 1999م و2007م. وفي عام 2007م أنتخب رئيسا لمجلس الأعيان إلاّ أنه لم يبق بهذا المنصب فترة طويلة، حيث كلّفه ملك بلجيكا " ألبيرت الثاني" برئاسة الوزراء عقب إستقالة رئيس الوزراء السابق " إيف لوتيرم" نهاية عام 2008م. ففي مطلع عام 2009م أصبح رئيسا لوزاء بلجيكا وفي مطلع عام 2010م سيصبح رئيسا لأوربا حيث سيعتلي منصة الحكم في بداية شهر كانون الثاني" يناير" القادم بمرتب سنوي قدره في حدود الـ 270 الف يورو.
لماذا أختير فان رامبوي دون غيره؟.
لقد أختير السيد فان رامبوي دون غيره من المرشحين الآخرين على منصب رئيس الإتحاد الأوربي، كرئيس وزراء بريطانيا السابق " توني بلير" ورئيس وزراء لوكسنبورغ " يونكير" أو غيرهم من الشخصيات السياسية الأوربية المرموقة، لأسباب عديدة أذكر منها ما يلي :
أولا : أن الرئيس المنتخب يتكلم الكثير من اللغات الأوربية ويتقنها مما يسهل سرعة حركته وتمشية ضرورات عمله وإتصالاته التي يمليها عليه هذا المنصب. كما أن نضوجه وإتزانه وحنكته السياسية التي أبداها من خلال عمله السياسي وحياته السياسة تشير الى أنه رجل الملمات والمصاعب. فالمجتمع البلجيكي معقد في تكوينته وصيرورته بسبب إختلاف اللغات والأصول فيه وهذا ما جعل البلد في أزمات سياسية متلاحقة، عجز السياسيون عن تجاوزها والتي طالما كانت تهدد بالتقسيم والشرذمة. رغم هذه المصاعب فقد إستطاع هذا الرجل، بعد إستلامه زمام الأمور، أن يهدأ الموقف ويجمع الأطراف المتنازعة ويقارب بينهم حتى أصبحت بلجيكا في عهده تعيش فترة هدوء سياسي ملموس وواضح. وهكذا فإن إنتخابه رئيسا لأوربا قد يحرك هواجس الشارع البلجيكي لأنه سيفقد ربان ماهر قاد سفينة بلده الى بر الأمان بعدما كانت تتمايل بين الأمواج العاتية.
ثانيا : منصب رئيس أوربا في الوقت الحاضر ،على الأقل، هو منصب تشريفي بروتوكولي وواجهة رمزية أمام دول العالم. ليس هناك صلاحيات حقيقية سيتمتع بها هذا الرئيس ودوره سيكون أشبه ما يكون بدور ساعي البريد الذي ينقل رسائل دول الإتحاد الى قادة دول العالم ويبين وجهات النظر. ليس من حقه التعيين أو الفصل ولا من حقه التصرف حسب اهوائه وإراداته. من هذا المنطلق فإن هذا المنصب لا يستهوى رؤساء الدول الأوربية الكبيرة كألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها ، لأن الرئيس ساركوزي، مثلا ، يفضل ان يرأس فرنسا بصفة الناهي والآمر ولا يتوق للرئاسة الأوربية الشكلية. وهذا ما يجعل المتنافسين على هذا المنصب هم من رؤساء الدول الأوربية الصغيرة الذين ربما ينتعشون معنويا وماديا في هذا المنصب أكثر مما عليه الحال في بلدانهم. هذا الأمر يضيق حلقة المتنافسين على المنصب ولا يجعل الحيتان الكبيرة تقترب منه.
ثالثا : بروكسل هي العاصمة الرسمية لأوربا، فمن اللائق أن يكون أول رئيس أوربي منها كي لا يثير ذلك الحساسية والتنافس عند الآخرين خصوصا في أول تجربة في هذا المجال. فضلا عن إختصاص هذا الرئيس في الإقتصاد وتجربته الناجحة في تخليص بلجيكا من عجزها المالي حينما كان وزيرا للمالية . أوربا اليوم بأمس الحاجة الى أمثال فان رامبوي في مأزقها الإقتصادي وأزمتها المالية. ومهما كانت الأسباب والدوافع التي أدت الى إختيار فان رامبوي كأول رئيس لأوربا، فأوربا دون شك سوف لن تندم على إختياره ، وإن كان لابد من نادم على ذلك فسيكون الشارع البلجيكي هو النادم ! لأنه وافق على تصدير رئيس وزرائه الى الغير وهو في أمس الحاجة اليه. فربما بوجوده ستتحد أوربا وتتمدد وربما بغيابه ستنفرط عاصمتها وتتبدد! |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|