بقلم: عزت بولس
أستقبل العالم الإسلامي قرار الشعب السويسري بحظر بناء المآذن لدور العبادة الإسلامية بإستنكار كبير ورفض للنتيجة، ذلك لأن السويسريين من الشعوب التي تعد رمزًا للتحضر والرقي وقبول الأخر، فما الذي جعلهم يصوتوا كأغلبية لصالح قرار الحظر هذا الذي حتمًا لا يتناسب مع معاييرهم المنفتحة على الأخر أيًا كان؟
نتيجة ذلك الإستفتاء فعليًا خطيرة الدلالات ولهذا يجب أن نُفكر في أسباب وصول السويسريين لها بنظرة تأمل ودراسة من خلال العقل، بعيدًا عن الإنفعالات والتشنجات التي حتمًا قد ترضي غضبنا من النتيجة لوقت، لكن لن تساعدنا على فهم طبيعة عقلية المواطن السويسري الذي أتاح له وطنه على مدار عقود طويلة قدر عالي من الحرية في كل شيء، فأصبح هذا المواطن شريك أساسي في صنع الأحداث التي يمر بها وطنه، وليس فقط مجرد متفرج على تلك الأحداث مكتفيًا كحالنا داخل أوطاننا بالتعبير عن مواقفنا بالشجب أو التأييد وما تبع ذلك من تهليل وتصفيق أو تدمير وإنتقام.
المواطن السويسري ومن واقع معايشتي له على مدار نحو ما يقرب من الثلاثين عام يمكنني أن أحدد له سمات أساسية بشخصيته، فهو يمتلك قدرة عالية على ضبط النفس وتحكيم العقل ومن ثم الإبتعاد تمامًا عن الخلط بين العواطف أيًا كان مصدرها وذلك العقل الذي يحركه، لذلك فمواقف هذا المواطن في غالبية الأحيان إن لم تكن دائمًا"موضوعية"ومن الصعب جدًا إن لم يكن مستحيل أن يؤثر أيًا من كان على تفكير مواطن بتلك السمات عبر المرور على بوابه" العواطف" ومن يظن ذاته ماهرًا في التأثير بـ"العواطف" يفشل تمامًا مع المواطن السويسري لأن ذلك النوع من التأثير يجعله-أي السويسري- يشعر وكأنك تستخف بعقله لهذا تجده تلقائيًا يبتعد عنك رافضًا وسيلتك "السخيفة" للتأثير عليه.
المواطن السويسري لا يمكنني أن أصفه بأنه "متدين" أو غير ذلك، ولكنه يبتعد تمامًا عن إستخدام "الشعارات الدينية" في حياته العملية والعامة، بحيث لا يمكن أن يسألك أحدهم عن ديانتك أو يناقشك في طبيعة معتقدك الديني مهما كان ذلك المعتقد يبدو غير منطقيًا أو غيبيًا إلى حد بعيد برأيه فالمهم ألا تؤذي عقيدتك الأخرين بأي طريقة كانت تخل بأمن وسلامة المجتمع، ما يجمع الأفراد بسويسرا قيم عامة كالإخلاص في العمل والإلتزام بالقوانين، فالفرد يحترم النظام بكافة أنواعه مقابل إحترام النظام للفرد وتقدير إمكاناته وإحتياجاته.
النظام الديموقراطي الفريد بسويسرا دعم سمات مواطنيه إلى حد بعيد أو لنقل دعمها بشكل كامل، حيث الإعتماد على "اللامركزية" في إدارة كافة شئون الدولة بدءًا من القرية والمدينة فالمحافظة أو "الكانتون" والتي يدير شئونها سبع ممثلين في الشئون المحلية يتم إختيارهم بالإنتخاب الحر، الحكومة السويسرية كذلك تتكون من سبع وزراء من رؤساء الأحزاب السياسية الكبري يتداولون فيما بينهم رئاسة الحكومة بشكل سنوي حتى أنه في أحيان كثيرة لا يعلم المواطن السويسري من هو رئيس بلده الحالي، فالأسماء لا تعنيه يهمه أكثر جودة الأداء الحكومي ككل.
تماشيًا مع إحترام النظام السويسري لعقلية مواطنيه نجد أن الدستور يسمح للأفراد المكونين لفريق ما له إتجاه بعينه أن يقوموا بعمل حملة توقيعات لإصدار قانون ما أو الإعتراض على قانون قائم، حيث يقوم هذا الفريق بجمع عدد من التوقيعات المؤيدة لهم عددها"مئة ألف" خلال ثلاثة شهور وإذا تمكنوا من هذا تُلزم الحكومة بعرض "مبادرتهم" على الشعب للإستفتاء وتقوم بتنفيذ نتيجة أيًا كانت فهو رأي الشعب ورأي الحكومة هنا غير مُلزم فالقرار ليس لها.
لهذا خطورة الإستفتاء الأخير الخاص بحظر بناء المآذن يكمن في إنه "قرار شعبي" يؤكد في طياته صحة ما أوردته عن سمات"المواطن السويسري" التي أضيف عليها أنه قاريء جيد وواعي غير مصاب بداء"النسيان" ومراقب للأحداث العالمية التي قد لا تمس إستقرار بلده، لكن تحليله لها يؤثر على أراءه في قضايا بعينها داخل وطنه، فالسويسري لم ينس مشاهد التدمير التي قامت بها مجموعات"إرهابية" منطلقة من أيدلوجيا دينية بعينها في دول مجاورة...لم ينس غزوة "مانهاتن" في 11 سبتمبر 2001 والتي خرج منها السويسري بتساؤلات عن كيف يحتفل البعض بقتل أناس أبرياء؟ لماذا حالة الاغتباط على إستحياء لدي البعض داخل سويسرا ممن ينتمون لديانة القائمين بالغزوات الدموية بعواصم العالم الحر؟
حادثة مروة الشربيني الأخيرة جعلت المواطن السويسري يفكر في الأسباب التي دفعت بالبعض ومنهم المصريين تحويل حادث مؤلم لمقتل سيدة إلى مظاهرات سياسية وإتهامات بالعداء لعقيدة الراحلة؟ قد يبدو على السطح أن الشعب السويسري نسي أو تناسي مذبحة الأقصر عام 1997 والتي راح ضحيتها ستة وخمسون سائح من بينهم ستة وثلاثون سويسري تم قتلهم والتمثيل بأجسادهم على نحو"بشع" ولكن الواقع يقول أن ذلك الشعب لم ينسي ولن ينسي فالمجازر لا تنسي على مدار التاريخ من الذاكرة الجمعية للمجتمعات والشعوب.
المواطن السويسري يتابع جيدًا أوضاع الحريات الدينية في المجتمعات المجاورة له والتي يكون فيها المواطنين الراغبين في تعليه المآذن بسماء سويسرا أغلبية عددية ومع ذلك لايسمحون لشركاء وطنهم من أتباع الديانات الأخرى بممارسة حقوقهم، بل ويضيقون عليهم ويضيعون حقوقهم بجلسات عرفية من أجل تحقيق حماية هشة لمجتمعات ساقطة في بئر تعصب وجهل القرون الوسطي.
القرار السويسري الأخير بحظر بناء المآذن لا يمكننا إجمال دوافعه تحت عبارة واحدة"إنتهاك حقوق المسلم" فالأمر أكبر بكثير من إجماله تحت مفردات عبارة إنفعالية في حقيقتها، ذلك القرار محصلة تأثر المواطن السويسري بجملة من الأحداث العالمية، وكم هو رائع تفهم الحكومة السويسرية للأسباب التي دفعت غالبية الشعب لإختيار قرار حظر بناء المآذن على الرغم من إعلانها رسميًا بأن منع ذلك المنع ليس الوسيلة المناسبة لمواجهة المتطرفين الإسلاميين.
قرار الشعب السويسري يدفعنا لإعادة التفكير في سياستنا نحن تجاه أنفسنا وتجاه الأخر، وكفي شجب ورفض أو تأييد وتهليل دون فهم حقيقي للأسباب التي تجعل الأخر يقيمنا على ذلك النحو الذي لا يرضينا وندعي أنه ليس التقييم الحقيقي لنا.
ezb@copts-united.com |