بقلم: أُبيّ حسن
ربما نستطيع تفهّم محاكاة الرئيس مبارك, في خطابه الذي ألقاه مؤخراً أمام مجلس شعبه, لرغبات وأهواء الرعاع من بني قومه, بما من شأنه إمرار مشروع التوريث بأكبر قدر ممكن من السلاسة. في الوقت ذاته اقتنصّ جمال مبارك الفرصة ليظهر كممثل لـ"آمال" المصريين, من خلال ظهوره الإعلامي وتصريحاته الحادة بخصوص الأزمة. ومن البدهي أن يعتقد الرعاع(وما أقلّ نسبتهم في دنيا العرب) أن الرئيس مبارك حقق لهم نصراً (قوميّاً ووطنيّاً) عزّ نظيره!. فضلاً عن أن النظام المصري, وجد في ما جرى (ويجري) فرصة ملائمة لتصدير مشاكله الداخلية إلى خارج ما, يشغل بها شعبه, كإشغالنا في سوريا بفضيحة فتات المازوت وقانون الأحوال الشخصية, من قبل حكومة السيد العطري.
في سياق مشابه, أوقفني أكثر ما أوقفني البيان الذي أصدره مصريون مقيمون في بريطانيا, دعوا فيه حكومة بلادهم إلى طرد السفير الجزائري والسوداني من مصر, وقطع العلاقات مع بلديهما فوراً, والتخلي عن القضايا العربية, بعد خسارة منتخبهم أمام الجزائر. إضافة إلى مطالبة أصحاب البيان بـ"طرد الجزائر من الجامعة العربية أو انسحاب مصر منها لأننا (مش عايزين العرب الجرب دول خالص), وإقامة قضية بالمحكمة الجنائية ضد الجزائر والسودان عما حدث في المباراة, ومساعدة المحكمة الجنائية في القبض على الرئيس السوداني عمر البشير لأنه مجرم ومطلوب تسليمه...",(الوكالة الدولية للأنباء 21/11/ 2009).
إذا ما تجاوزنا, في البيان المذكور أعلاه, المطالبة بالمساعدة في إيقاف السيد عمر البشير, لاكتشافهم "المبكر" بكونه مجرماً(وهو كذلك, فعلاً), واكتشافهم هذا لا يشبه سوى الاكتشاف "المبكّر جدّاً" لبعض عتاة القومية العربية بأن أكثر من نصف السودان غير عربي, سنجد في البيان تلك النبرة الحادة في التنصل من العرب والعروبة, إلى درجة استخدام ألفاظ نابية وغير لائقة بحق العرب. كما أن المسألة لم تقف عند حدّ اكتشاف المصريين لفرعونيتهم, وتباهي الجزائريين بكونهم محاربي الصحراء!.
صحيح أن ثمة أصوات لعقلاء ظهرت على السطح تطالب الطرفين بالتهدئة, مذكرينهم بثوابت "الأمة" كالتاريخ والجغرافية والمصير المشترك.. الخ, مثلُ ذلك البيان العقلاني والمعتدل لاتحاد الكتّاب في مصر, وآخرون قلائل في الجزائر, بيد أن صوت العقل هذا اضمحل أمام استفحال الحضور الغريزي. حتى أن رئيس تحرير صحيفة "المصري اليوم" سرعان ما تراجع عن شعاره "وردة لكل لاعب جزائري" تحت وطأة ثقافة القطيع التي سرعان ما انتشرت كالنار في الهشيم. وكذلك الأمر, لم ينس النائب مصطفى بكري رئيس تحرير صحيفة "الأسبوع المصرية", وهو أحد مرتزقة القومية العربية(أو بقاياها) أيضاً, أن يذكّر الروائية أحلام مستغانمي بأفضال مصر عليها! ذاكراً لها أنها لو لم تحذ على جائزة نجيب محفوظ لما كان سمع أحد بها!. وذلك عقب تهديد الروائية لأحد الغلابة المصريين العاملين عندها في بيروت بالطرد من عمله!.
قبل الاستطراد, هل يحق لنا أن نتساءل (بمعونة لو), ترى لو قدّر لجمال عبد الناصر العودة إلى الحياة الآن, ماذا سيكون موقفه مما نراه؟, ولو قدر للمليون والنصف شهيد الذين تفاخر (أو تتاجر) بهم الجزائر أن يعودوا للحياة مجدداً, ماذا ستكون ردّة فعلهم؟ هل تراهم سيأسفون كونهم حاربوا الاحتلال الفرنسي؟ ويا ترى ما هو موقف أحد أساتذة التاريخ الفرنسيين(المفترضين) من تلك التراجيديا التي يشهدها ونشهدها؟ هل تراه سيأسف هو الآخر أن بلاده قد احتلت ذات سنوات مضت أرضاً هؤلاء هم شعبها وحاضرها ومستقبلها؟.
للوهلة الأولى, سيبدو لنا ما نشهده في غاية التفاهة؛ إذ هل يعقل أن تكون نتيجة مباراة كرة قدم هذا العداء المضمر كله بين البلدين "الشقيقين"؟!. لا أشك بأن نتيجة المباراة كانت الشعرة التي قصمت ظهر البعير(والبعير هنا كذبة اسمها القوميّة العربية. بالمناسبة كان المفكّر الحقيقي والخطير الشهيد كمال جنبلاط يقول بأن القومية العربية إنما هي أسطورة). فالمنطقة الناطقة بالعربية, التي أثقل عليها بعض العرب برعونة عروبتهم وخشونة بداوتهم –حتى السياسة بدونوها- التي لم يجنوا منها شيئاً(اللهم إلا هذا الحصاد المرّ, واليباب الذي نكاد نراه في كل مكان, وعلى أكثر من مستوى), باتت تعيش أزمة هُويّات, وما زاد من حدتها, هو الحداثة وما بعدها من ثورة في المعلومات والاتصال, والاحتكاك المباشر على مدار الساعة بنتائج ومعطيات تلك الثورة. قد يكون من شأن هذا كله أن كرّس باللاوعي, وعلى مدى سنوات, نفوراً لدى الكثيرين(من المحيط إلى الخليج) من العروبة التي لم تستسغ ذائقتها وثقافتها –على ما يبدو- أناشيد سليمان العيسى وأشعاره فيها, بالرغم من رقّة تلك الأناشيد وعذوبة بعضها. وإلا كيف لنا أن نفهم شعور المصريين(فجأة) بفرعونيتهم, والجزائريين بكونهم محاربي الصحراء؟. كيف لنا أن نفسّر اعتبار المصريين لعمر البشير مجرماً؟. هل يحق لنا أن نذكر في هذا المقام أن ثمة كتاباً مهماً لغلوب باشا, يذكر فيه أن القوميّة العربية(كفكرة, و"نضال") خدمت بريطانيا خدمات لا تقدّر بثمن؟!. من ثمّ هل هي مصادفة أن يكون وجود مؤسسة الجامعة العربية عبارة عن ثمرة فكرة بريطانيّة؟ إذ أول من أطلق فكرتها رئيس وزراء ووزير خارجية بريطانيا الأسبق أنطوني ايدن!.
أزمة الهُويات التي أعنيها, فاقم من حدتها, الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والسياسية المترديّة لدى منظومة أهل الضاد. فعلى سبيل المثال, في قاهرة المعز يوجد أكثر من أربعمائة ألف آدمي يعيشون في المقابر, في منطقة تُسمى "منشية ناصر", البعض يُقدر العدد بالمليون والنصف. وجولة سريعة على عدد من بلدان العالم المتقدّم, سنجد أن غالبية المهاجرين الجدد, هم من العرب(أو من يرزحون تحت حكم ثقافة عربية) ضاقت بهم السبل, فارتضوا العمل في مهن وضيعة وذليلة في تلك الدول. أما إنجازات العرب العلميّة والفكريّة راهناً, فهي معروفة للصادي والغادي.. حدّث ولا حرج, وقد كان آخرها دراسة أُعلن عنها مؤخراً, فقد "كشفت دراسة علميّة(لاحظ كلمة علميّة!) حديثة, أن مكة المكرّمة تعتبر مركز الكون, وأنها تتوسط أربع دوائر تمرّ بحدود اليابسة لقارات العالم السبع, وكذلك المراكز الجغرافية لقارات العالم الجديد", ومُكتشف هذه الدراسة "القيّمة" هو أحد زملاء اينشتاين وباستور, نعني المدير العام للمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة الدكتور يحيى وزيري.(القدس- وفا: 22/11/2009).
طبعاً, لم يكن من الغرابة بمكان, أن ينبذ المصريون العروبة, مع تحفظنا على الصفات السيئة التي أطلقها بعضهم بحق العرب, فمصر أنهكتها وأفقرتها أربعة حروب لأجل القضايا العربية؛ وهي بلد بقدر ما هو عريق حضارياً وثقافياً, هو بلد فقير الموارد قياساً بغيره من دول عربية. والمساعدات(المشروطة عادة) التي (كانت) تأتيها من دول الخليج(تحديداً المهلكة الوهابيّة) كان من شأنها فقط تأجيل موت المصريين وليس النهوض بهم وبواقعهم, قبالة بلايين ينفقها(إخوانهم في العروبة- الخليج) في اللهو والعربدة وحياكة المؤامرات بغية تغيير الأنظمة ونشر التخلف والإرهاب في العالم.
إن ما نشهده الآن من تذابح معنوي بين الجزائر ومصر, وهو تذابح قابل للاستمرار والمزيد من التصعيد على المدى المنظور, يفرض على مثقفينا إعادة النظر في مفهومهم للعروبة والقوميّة وما تبقى من مصطلحات سقيمة, كان من شأنها أن أنهكتنا طوال عقود؛ فالنوايا الحسنة وطيبة القلب وبدونة السياسة لا تبني دولاً ولا تصنع مستقبلاً للشعوب. نسوق هذا, ونحن نؤمن بعدم جواز القياس على ما كنّا نعيش فيه من مدّ قومي في خمسينات وستينات القرن الماضي. فالظروف مختلفة كليّاً, وبالنسبة لنا –كسوريين- الأحرى بنا النظر إلى سوريا بحدودها الحالية مع الجولان ولواء اسكندرون باعتبارها أمة مكتملة العناصر. ولا نعتقد أن المطلوب منا الانتظار كي نغرق مع المركب الغارق أصلاً. |