بقلم: نبيل شرف الدين
الاستخدام السياسى للفنون والرياضة ليس اختراعاً جديداً، بل هو أمر مارسته جميع الأنظمة الشمولية، سواء فى الغرب أو الشرق، لكن اللعبة الأخطر فى هذا السياق هى استغلال حالة الهوس الدينى السائدة لشحن الجماهير المأزومة دينياً، وهو ما تورطت فيه للأسف أخيراً ماكينة الإعلام الحكومية فى مصر حينما راحت تناشد الجمهور المترقب لمباراة مصر والجزائر الدعاء للفريق الوطنى بالفوز، وكأنه يمكن للمرء تحقيق أمنياته بمجرد الدعاء، لا العمل والسعى.
فى مترو الأنفاق، كما فى الأسانسيرات وسيارات الأجرة، ستصطدم عيونك بملصقات تأمر بالدعاء، هذا لركوب الدواب، وذاك لنصرة الفلسطينيين، وحتى داخل غرف النوم وقبل اللقاء الحميم بين المرأة وزوجها، فهناك أدعية يتحدث عنها عرابو تغييب العقل، بمزاعم سخيفة كأن يقول أحدهم «حتى لا يشارك الشيطان هذه الخلوة الشرعية المباركة»، وهذه ليست ادعاءات للتشنيع على ذلك الفصيل الذى يكتسح مصر، لكنها وقائع موثقة تعج بها أدبياتهم وكتبهم الصفراء التى تباع على الأرصفة، وأمام المساجد التى يهيمن عليها دعاتهم ممن يعملون على دغدغة المشاعر الدينية لدى البسطاء.
الإيمان بالخرافات وانتظار المعجزات لحل مشكلاتنا هو الخطوة لتغييب العقل، وحين يحاول العقلاء رد الاعتبار للوعى وذهنية النقد، يواجهون بكافة وسائل الإرهاب الفكرى التى تبدأ بالتمسح فى الحرية الشخصية، ولا تنتهى حتى تصل للتكفير والاغتيال المعنوى، وربما الجسدى فى مرحلة لاحقة، ولنا فى خبراتنا السيئة مع هذا الفصيل ما يؤيد تورطه فى اغتيالات، واعتداءات على المخالفين فى الرأى من طليعة التنوير، من طه حسين حتى فرج فوده، مروراً بنجيب محفوظ ونصر أبو زيد والقمنى وغيرهم.
الكارثة الحقيقية أن تلجأ السلطة للمزايدة على خطاب هذا الفصيل، فتمنحه فضلاً عن الشرعية، مساحات واسعة من المكاسب التراكمية فى الشارع والمزاج العام، كقصة «يللا ندعى لمصر»، فبدلاً من أن تقود وسائل الإعلام الرسمية حملات للتوعية بالسلوك المتحضر، وتبشر بقيمة العمل ومساءلة المقصرين، وتسعى لترسيخ النزاهة فى الفكر والسلوك، والعقلانية والتعايش والتسامح، وغيرها من القيم التى تآكلت فى مجتمعنا خلال العقود الأخيرة، نجدها تتورط فى تعميق التغييب وإشاعة الخرافة.
ولعل الخطير فى الأمر أن هؤلاء المهووسين دينياً ربما يحسب البعض أنهم «مدجنون»، لكنهم هم الذين سيكونون وقوداً لأى سيناريو للفوضى لا قدر الله لأنهم لن يقيموا وزناً لحسابات العقل، بل سيصبحون أسرى للشحن العاطفى من قبل أى ناعق، ولعل ما مارسته الأجهزة قبل مباراة كرة القدم الأخيرة بين مصر والجزائر، ما يشير لاستجابة الملايين على نحو ينذر بالخطر، لو سعت جماعات متغلغلة فى الشارع المصرى كالإخوان المسلمين أو التيار السلفى الكامن لحشد الجماهير ضد النظام العام والسلطة.
تبقى فى النهاية الإشارة إلى أن النتائج النهائية للصراع الحضارى التاريخى بين المشروعين: «العلوى»، نسبة لمحمد على باشا وأبنائه، و«السلفى» الذى هب على مصر كريح السموم، ستحدد مستقبل العالم الإسلامى برمته، ولن تقتصر آثارها على الشرق الأوسط فحسب، لأن مصر تاريخياً تبنت الديمقراطية الليبرالية خياراً سياسياً، والتنوع الكوزموبوليتانى والحضارى خياراً ثقافياً، والتسامح الدينى والاختلاف فى الرؤى والاجتهادات خياراً اجتماعياً للتعايش السلمى المشترك.
فى المقابل تبنى المشروع السلفى أحادية الرؤى بشكل حاد، ومعاداة الآخر وتسفيهه منهجاً صارماً، وعدم الاعتراف بالتنوع الثقافى أساساً، بل على العكس يجعل الإمعان فى معاداة المخالفين، سواء فى الرأى أو المعتقد فريضة وتقرباً لله، ولسوء الحظ فإن هذه المنظومة العدوانية باتت تدعمها ثروة هائلة تشكل ما يمكن وصفه بتعبير «الغزو بالتخلف» الذى لا يمكن مقاومته بالنوايا الطيبة والدعاء فحسب، بل بالعمل الجاد.
|