بقلم: نبيل المقدس
(الدين الحقيقي ليس التسلط على الله ولكن الخضوع لمشيئته وخدمته)). إختتمت الأستاذة ناهد صبري موضوعها بالكلمات السابقة والتي أوحت لي بهذه القصة الحقيقية والتي ربما تقترب أحداثها إلي المعني التي تقصده الكاتبة في موضوعها ( الصلاة والسلطة ) والمنشور بتاريخ 15 \ 11 \ 2009 في موقعنا المتميز الأقباط متحدون... لكن قبل أن أبدأ في القصة اريد تغيير مطلع الجملة طبقاً لعقيدتي إلي ( الحياة الحقيقية مع الله ليست تسلط عليه ولكن الخضوع لمشيئته وخدمته ) هذا من منطلق ان المسيحية ليست ديانة بل حياة .
بالتليفون ... حدثني قريب لي قائلاً:
كان لازم أنزل بلدتي بالصعيد لإنهاء بعض الأمور المتعلقة من وقت ماتركناها منذ ثلاثون سنة ... لم أنزل بلدتي طيلة هذه السنوات إلا مرة واحدة .. كنت متشوق إليها جداً وكان طبيعياً عندما وصلتُ إلي محطة مصر منتظراً القطار أحاول أتذكرُ أوقاتَ صبايا ... فأنا أعتبرُ هذهِ المرحلة من أجمل مراحلي العُمرِية ... تذكرتُ وأنا في السنة الثانية ثانوي ... حيث كنا نسكن في شارع تقع فيه أهم المدارس الراقية بالبلدة ... تذكرتُ أختي والتي تركت البلد بعد الثانوية العامة لتنتقل إلي القاهرة بحكم زواجها ثم هاجرت بعد 20 سنة إلي الولايات المتحدة عند أبنائها ... كانت أختي مِحور ذكرياتي وأنا علي الرصيف فهي أصغر مني بسنتين دراسة ... فقد كانت صديقة وزميلة بمن أحببتها لأول مرة ... كان حُب غَريب لا أستطيع حتي الآن وصفه ... كنت دائماً أتصنع أنني آتي من الخارج صُدفة في وقت خروجهن من المدرسة لكي أقابلها هي وأختي ... كان وجهها البريء يتلوّن أحمر وأخضر وأزرق ...
ربما كُنت أتصور هذه الألوان لأنني أنا أيضا كُنت لا أتجرأ أن أنظر إليها ... عيونها خضرا وشعرها أصفر يميل إلي اللون البُني ... كنت أتمشي معهما مع إلقاء بعض النظرات السريعة بيني وبينها عبر أختي التي كانت تتوسطنا في السير. ومن حظنا الحلو أن أختي كانت أقل منا طولاً ... مما ساعدنا علي تبادل النظرات. والغريب أن والدتي بطيبتها وإحساسها الأمومي ... كانت تقول لي إن نوال سوف تكون من نصيبك وأنا بأصلي للرب ان تكون من نصيبك... وفي إحدي المرات أتت زيارة لأختي مع بعض الزميلات ودخلت عليهن والدتي لكي تؤكد وتشهد لهن جميعاً أن نوال سوف تكون لإبنها سمير ( هذا إسم قريبي الذي كان يحدثني بالتليفون وبطل هذه القصة ). فهي دائما ترفع صلوات لكي تكون نوال من نصيبي وأن تكون هي أم لأولادي .
ويكمل سمير حديثه معي ... كنت أتلقي من أختي يومياً أخبارها أول بأول , وهي كانت دائماُ تستفسر عني ... فكانت تستدرج أختي بما فعلته مساء اليوم حتي ذهابي إلي النوم ... أما بالنسبة لي فقد كنتُ أتوق أن أسمع أخبارها وكم من المرات تكلمت عني !؟... وكانت أختي تَستغِل هذا الإحتياج وتُجبرني أن أقومَ برسم لوحاتها حيث كُنت أجيد الرسم وقتها ... كرهتُ الأجازات الصيفية لأنني كُنت أتحرم منها طِيلة الثلاث شهور لسفرها إلي الإسكندرية لقضاء فترة الأجازة عند جدتها حيث كانت والدتها أصلاً إسكندرانية ... وفي الأجازة الصيفية التي سبقت الثانوية العامة لها ... سمعتُ ما أحزنني أن والدها قد إنتقل إلي الإسكندرية والذي كان يتبوء مركزاً عالياً في وزارة التربية والتعليم . كانت صدمة لِي ...
فقد كُنت أعيشُ الثلاث شهور الأجازة علي ذكريات النظرات ... فقد كان وقتها تبادل النظرات بمثابة إنفراد الحبيب والحبيبة علي كورنيش النيل في هذه الأيام وربما أكثر من هذا بكثير. وإنقطعت أخبارها , ونسيتها بمجرد إنتهاء أختي من الثانوية العامة وزواجها وإنتقالها إلي القاهرة . ثم أنهي قريبي هذا المكالمة معي علي وعد منه أن يكمل لي هذا الحديث والذي لم أري منه أي فائدة أو معلومة أو سبباً تجعله يقص لي هذه الأحداث التي حدثت منذ 28 سنة تقريباُ ... لكنه طلب مني أن أستقبله في مطار القاهرة علي الخطوط الداخلية لأنه سوف يأتي من الغردقة بعد قضاء أسبوع فيها , ولم يذكر لي ما الذي جعلهُ بأن يستجم أسبوع في الغردقة فجأة.
تخرج قريبي هذا ( سمير ) من كلية الطب وتم تعيينه في القاهرة , وتزوج من زميلة لهُ ... وكَافحا ... حتي جاء المرضُ اللعين وأخذها منه ومن إبنه وهي في العمر المفروض أن تري فيه ثمرة تَعبها وشَقاها . وقرر أن لا يخوض تجربة الزواج مرة ثانية .
إستقبلتهُ في المطار وإذ أراه يتأبط سيدة في منتصفِ الخمسينات , لكنها تبدو في منتصف الإربعينات , وقدمني لها لي علي أنها زوجته ... إندهشت جداً وقلت لهُ هل إبنك علي عِلم ... قال لي إتصلتُ به من الغردقة وهو وَعدني المَجيء للتهنئة وحجزَ أول طائرة من تكساس .
بدأ يتحدث معي أمامها وبكل صراحة ... قال عندما دخلت عربة النوم أثناء ذهابي إلي البلدة لأنهي بعض الأمور العالقة كما أخبرتك في التليفون من قبل ... ألقيتُ بنفسي علي الكرسي وأغمضتُ عَينيّ لكي أكمل ذكريات الشباب ... وكان آخر كلام رَن في أذني هو كلام أمي الذي لم يتحقق [أن نوال سوف تكون من نصيبك] .. إبتسمتُ وأغمضدتُ عَينيّ... ولم أنتبه إلي ما كان يحدث حَوّلي لأنني كنت شِبه نائم قبل سير القطار لأنني كنت مُجهداً ... وبعد ساعتين أيقظني الكمساري لكي يتحقق من التذكرة ... وإذ أفتح عينّي أري وجهاً جميلاً جالساً أمَامِي ... هذا الشكل أنا أعرفهُ جيداً ... لكن فين وأين ؟؟ تصورتُ أنني كنتُ مَعها منذ لحظات ... لكن (فين ؟؟؟) ... إحترتُ كثيراً لم أتمالك نفسي ...
إسترجعتُ كل أيامِي السابقة مُنذ صِغري حتي آخر يوم وجودي في القاهرة لكي أعرف متي رأيتُها لكني فشلتُ ... و فجأة إنتشلني من هذه الحيرة ... ووجهت كلامَها لي بصوتِ هادي جميل ( أخبار سميرة أختك إيه؟؟) قمتُ من مكاني مذهولاً وأتعجبت أنني عندما نظرتُ إليها لأول مَرة و راجعتُ كلَ الشخصيات التي في شريط ذاكرتي خلال جميع مراحل عمري.
كان الشريط يتخطي المرحلة التي أحببتُ فيها لأول مرة , وكأن هذا الجزء من شريط ذكرياتى .. يحذفه مقص الرقيب عن قصد ... وفجأة وبدون وعيّ قُلت بلهفة ...نوال !!!!! قصدي مدام نوااااال !!! .. وأفاجيء أنها قد عَرفتني من أول وهلة عندما جَلست علي الكرسي الذي يُقابلني وأنا كنتُ وقتَها شِبه نائم ... قالت لي ( شُفت الدنيا صغيرة إزاي !!) ... أخذتنا الذكريات وتَحدثت عن نفسِها وعَلِمتُ أنها لم تتزوج لأنها فضّلت أن تُربي أبناء أخيها بعد وفاة زوجتهُ وزواجهُ من أخري , وها هُم كبروا وتزوجوا وهي في طريقِها إلي الإبنة الكبري للزيارة . أما هي فهي ما تزال تعيش في الإسكندرية .. مع إبن أخيها الذي تخرج من كلية الصيدلة ويستعد الآن للذهاب إلي إحدي الدول العربية للعمل هناك .
شَرحتُ لها ظُروفي ... وقلتُ لها ..إنت فاكرة كلام والدتي لما كُنتِ تأتين لزيارة أختي ... قالت عُمري ما أنسي كلام والدتك ... قلت لها وإيه رأيك ؟؟ ( ماتيجي نحقق حِلمَها ) ضَحِكَت وقالت ... مِش لازم نأخذ رأي الكمساري .... (اللي لولاه كان زمانك نائم وما شفتنيش عشان أنا نازلة قبليك) ... قُلت لها سوف آتي إليك مساء الغد لإتمام أمنية والدتي . وفعلاً تحقق حُلم والدتي بعد 28 سنة ... !! ثم أخذنا في الضحك و أوصلتهما للمنزل ... وأنا مندهش من هذه الدنيا وقلت ( مــــدد يا ست أم سميـــــــر) ...!!!!!!!!
تذكرت هذا الحدث الحقيقي بعد سبع سنوات منذ زواجهما ... وأنا سائر منذ شهرين تقريباً أودعه من رصيف الحياة الأرضية في قطار 6 عند الغروب والذي سوف يستقله كل واحد فينا في ميعاده المحدد .... ( إمتي ؟؟؟ ) معرفش ... الله فقط الذي يعرف !!!!!!!!!
|