CET 00:00:00 - 16/11/2009

مساحة رأي

بقلم: د. ماجد عزت
يعتبر دير الأرمن من أقدم الأديرة بوادي النطرون وهو يقع في الشمال الغربي لدير القديس أيليا أو الياس "دير الأحباش" ومن الشرق دير القديس أبانوب، ومن الغرب دير يحنس (كاما) القصير(1) وتبلغ مساحته نحو ثمانية عشر قيراطًا وأربعة عشر سهم من فدان، تقدر مساحتها بالأمتار المربعة نحو3250م(2).
ويرجع إنشاؤه على أغلب الاحتمال إلى أواخر القرن الحادي عشر الميلادي -وبالتحديد سنة1088م- أيام الدولة الفاطمية حين تولى بعض الأرمن أكبر المناصب حتى وصلوا إلى منصب الوزارة في مصر مثل بدر الدين الجمالي "أمير الجيوش"، الذي دعا رجال الدين الأقباط والأرمن والأجياش والنوبيين إلى العقيدة الأرثوذكسية الموحدة لجميع هذه الطوائف ولهذا سمح الأقباط –على حد علمنا- لطائفة الأرمن بإنشاء دير خاص بهم بوادي النطرون عرف بدير الأرمن(3)، وما يدل على صحة هذا التوحيد والسماح للأرمن بإنشاء دير خاص بهم، هو قيام الأنبا أغريفوريوس بطريرك الأرمن الأرثوذكس بزيارة لأديرة صحارى مصر، خاصة أديرة وادي النطرون سنة1087م، وقد قابل الأنبا كبيرلس الثاني (البطريرك 67) واعترف بالأمانة الأرثوذكسية الصحيحة في حضرة جميع غفير من الناس حتي شاع بين الناس وقتها اعتماد القبط والسريان والأرمن والحبشة والنوبة على الأمانة الأرثوذكسية المستقيمة التى سلمها إلينا أباؤنا القديسون الفضلاء، وقد أحضر هذا البطريرك معه من مقر كرسيه بعض أجساد قديسين أرمن، وبعض صلبان من الذهب وغير ذلك، ولعل تلك المعلومة تفسر لنا كيفية وجود عدد كبير من رفات القديسين والشهداء الأرمن بالكنائس والأديرة في مصر، ومن المحتمل أن يكون هذا البطريرك قد حضر خصيصًا إلى مصر للاعتراف بالأمانة الأرثوذكسية وتدشين دير الأرمن بالوادي بصحبة كيرلس الثاني البطريرك السكندري(4).

ويعود تاريخ بداية الوجود الأرمني في الرهبنة بوادي النطرون إلى الراهب مناكيس الأرثوذوكسي العقيدة، والذي جاء إلى مصر لزيارة رهبانها سنة1087م، ودخل برية أبي مقار وتتلمذ على يد القديس "بيسوس" الراهب بدير أنبا يحنس كاما الذي فرح برؤياه وتباركا من بعضهما. ومن نسكه وزهده كان يلبس على جسمه ثوبًا من الحديد وفوقه مسح شعر. وتميز بموهبة صنع المعجزات ففي إحدى المرات أتوا إليه بشاب به روح نجس كان يعذب كل يوم فمن أجل تواضع هذا القديس سلمه لاثنين من كهنه الأرمن. وأمرهما بقراءة إنجيل معلمنا يوحنا على ماء، ثم قلبه على رأس هذا الشاب (وذلك بعد رشامة الماء بعلامة الصليب المقدس) وبالفعل تم ذلك وخرج الشيطان منه ويرى حتى أن هذا الشاب تبعه ورآه الناس عاقلاً سليمًا يتعلم ويكتسب عند قدمي القديس(5).
على أية حال، استطاع الراهب مناكيس أن يؤسس جماعة من الرهبان بدير الأرمن بوادي النطرون، على غرار ما كان متبعًا بديري البساتين وطرة الأرمنيان(6) وكان نظام المعيشة بين أولئك الرهبان بصفه عامة يتشابه مع حياة الرهبان المصريين في البساطة في تناول الطعام البسيط والذى كان يشمل القليل من الخبز الجاف وبعض الملح ولا يشرب غير الماء وكان الإفطار عند معظمهم مرة واحدة عند غروب الشمس ومنهم من امتاز في الزهد والتعبد ومضيِّ ثلاثة أو أربعة أيام في صيام كامل عن الطعام والشراب، وبعضهم كان يمضي أغلب لياليه ساهرًا في صلوات طويلة وإذا أعياه التعب لجأ إلى سنة من النوم لفترة وجيزة مستلقيًا على حصيرة من الحجر إمعانًا في التقشف وتعذيب الجسد(7).

وكانت هناك مجموعة من الأعمال التي تتم خارج قلايه التعبد، كل راهب حسب المناوية لخدمة الدير ومنها العمل بالمطبخ أو المخبز أو كبواب أو قندلفت (المسئول عن سراج القناديل) (8) أو عمل القربان أو دق الجرس أو رى وزراعة وجني ثمار وخضراوات الحديقة أو رعي ما يمتلكه الدير من رءوس حيوانات أو العمل باقتلاع النطرون(9).
ويعتبر القرن الثاني عشر الميلادي العصر الذهبي لدير الأرمن بوادي النطرون، ويرجع ذلك للدعم السياسي والمادي للدير، حيث صار بدر الدين الجمالي الأرمني، بعد ظهوره في مصر يمتلك كل القوة ويظهر ذلك من خلال هجرة أعداد كبيرة من الأرمن إلى مصر واستقرارهم بها(10) وعندما مات بدر في سنة 1094م وخلفه ابنه الأفضل، الذي كان وزيرًا إلى حين اغتياله في 1121م فأقام الجيش (ولا بد أن نتذكر أنه كان بصفه أساسية أرمنيًا) وجاء ابنه أبو علي كتيفان خلفًا له ولكنه سقط في 1131م وأخذ مكانه يانيس الأرمني، عبد الأفضل وأخيرًا أقام الجيش أرمنيًّا مسيحيًّا اسمه بهرام وزيرًا في 1134م ووصل الأرمني والمسيحيون في عهده إلى أقصى نفوز لهم، ويؤكد على ذلك سيرة "تاريخ البطاركة" وكان للمسيحيين في أيامه تأثير ونفوذ كبير، حتى أصبح في يدهم الوظائف في الديوان الكبير(11). ويمكن أن ندرك مدى الامتياز الذي تمتع به الأرمن من مثل واحد وهو أن أسقف أطفيح (مدينة كانت تابعة لمحافظة الجيزة وانفصلت فى إبريل 2008 وأصبحت تابعة لمحافظة حلوان(12)) الأرمن دعى إلى البلاط لإلقاء محاضرات تاريخية للخليفة الحافظ وكان له حق المثول حفلات استقبال الخليفة للزائرين في أيام الاثنين والثلاثاء، ومن المحتمل أن دير الأرمن بعد تلقى الهبات والمعونات العينية والمادية من السلطة السياسية في ذات القرن، التي ساهمت في ازدهار وكثرة رهبان دير الأرمن بوادي النطرون (13).

ولم يستمر ازدهار دير الأرمن بوادي النطرون وقتًا طويلاً، لأنه سرعان ما استولى المماليك الأكراد عل الحكم في مصر عام 1168م في أيام صلاح الدين الأيوبي فقد توالت التكسبات في عصر الدوله الأيوبية على الأرمن الساكنين في مصر بسب العداء التقليدي بين الأكراد والأرمن، فلذلك طرد الأكراد بطريركهم والرهبان من دير البساتين ورحل بعضهم إلى مدينة القدس أورشيلم بفلسطين سنة 1172م، وانعكس أثر ذلك على دير الأرمن ببرية شيهيت لعدم إمداده بطالبي الرهبنة لهروبهم، بل الأكثر من ذلك قام الأكراد بتخريبه في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي، ولكنه ظل قائمًا في حالة يرثى لها حتى نهاية القرن الرابع عشر الميلادي (14).

وقد ساهمت مجموعة من العوامل في تخريب دير الأرمن في ذات القرن منها ما يلي:
أولاً: غارة الموت الأسود (الطاعون) على مصر الذي كان يهلك كل يوم حوال 15ألف شخص بمصر والذي لم يفلت منه وادي النطرون أيضًا واستمر لمدة عام كامل هو عام 1373م.
ثانيًا: بعد ذلك اجتاحت مصر مجاعة كبيرة في عام 1373م بسبب عدم مجيء مياة الفيضان وتبعها انتشار الطاعون مرة أخرى وفي هذه المرة كانت الوفيات بين الرهبان في شيهيت من الكثرة بحيث جعلت الأديرة تترنح من وطأة هذا الوباء المريع وظلت المجاعة ووباء الطاعون مستمرين لعدة سنوات.
ثالثًا: سوء الحالة الاقتصادية الناجمة عن هذه المجاعة وهذا الوباء الذي أطلق عليه الموت الأسود أدى إلى انكماش الهبات التي كفلها العهد العمري للأديرة من محاصيل الوجه البحري وأيضًا انكماش الهبات التي كانت تصلهم من أغنياء الأقباط (15).

كما يُرجع إلى الأمير عمر طوسون في أوائل القرن العشرين فى كشف وتحديد معالم دير الأرمن الذي لم يبقَ منه إلا جدرانه التي يبلغ ارتفاعها مقدار أربعة أمتار مدفونة بالرمل -وعلى حد علمنا– قام بوضع علامة برتريه باسم هذا الدير(16) وبواسطة مشروع التعاون الهولندي المصري للمحافظة على الفن القبطي (ENccAP) والذى كان بتوجيه قداسة البابا شنودة الثالث (البطريرك 117) وجامعة ليدن الهولندية وبإشراف بنافة الأنبا صموئيل سنة 1991م أمكن تحديد معالم دير الأرمن، ونتمنى عودته على صورته الأولي كمصدر للسياحية الدينية، التي يعود نفعها على الخزينة المصرية(17).
وكانت هناك علاقات وثيقة بين الرهبان الأقباط ورهبان دير الأرمن وغيرهم من رهبان برية شيهيت، ويؤكد ذلك كتب الصلوات التي عثر عليها في دير السريان وهي مكتوبة باللغة القبطية وكل من اللغات السريانية والأرمنية والحبيشة حيث كان رهبان هذه الجنسيات يستعملونها كل بلغته لترتيل الأناشيد لتمجيد اسم الرب وللترحيب بالبطاركة أثناء زيارتهم لهذه البرية(18) وخير مثال على ذلك أنه عند زيارة الأنبا غبريال (البطريرك 86) (1370- 1378م) خرج للقائه رهبان الحبش ورهبان الأرمن بالمجامر والصلبان والأناجيل (19).
وكانت مناسبات تجمع الرهبان الأرمن بالرهبان المصريين تحدث في احتفالات شفعاء وادي النطرون مثل القديس مقاريوس والأنبا بيشوي ويوحنا القصير الشهير بأبو يحنس (20) كما لم يبخل الآباء الرهبان الأقباط على الرهبان الأرمن في تعليمهم مبادئ وأساسيات الرهبنة الأرثوذكسية، وكان الأقباط يستفيدون من كل ذلك في أن يقدمهم الرهبان الأرمن للتقرب من الوزراء الأرمن الموجودين في الطبقة الحاكمة لمصر في ذلك العصر(21).

خاتمة
وهكذا أوضحنا فيما سبق تحديدًا جغرافيًا لوادي النطرون ودير الأرمن المقام عليه، وكون الوجود الأرمني فى السلطة السياسية قد ساهم فى ازدهار هذا الدير وقد عرضنا العوامل التي ساهمت فى اندثاره، وما كان من أمر التنقيب عنه، بحيث عاد مصدرًا من مصادر الدخل القومي للخزينة المصرية.
كذلك عرضت الدراسة العوامل التي ساهمت فى نشأته وتنظيمه، وحياة الرهبنة اليومية بداخله ومصادر تمويلها، كما أبانت الدراسة العلاقة التي توطدت بين الرهبان القبط والأرمن.

الملاحق
ملحق (1) موقع وادي النطرون بالنسبة لخريطة مصر(22).
ملحق (2) بحيرات الوادي(23).
ملحق رقم (3)
الطرانة إحدى ولايات مصر حتى أوائل القرن التاسع عشر(24).
ملحق رقم (4)
موقع دير الأرمن بوادي النطرون(25).
ملحق رقم (5)

مباني دير الأرمن
(1) رسالة مارمينا: الرهبنة القبطية، ط2، مطبعة جمعية مارمنيا بالإسكندرية، 2001، ص143.
(2) عمر طوسون: المرجع السابق، ص66، 79، انظر ملحق رقم (4)، انظر ملحق رقم (5).
(3) إيفيلين هوايت: تاريخ الرهبنة القبطية في الصحراء الغربية مع دراسة للمعالم الأثرية المعمارية لأديرة وادي النطرون منذ القرن الرابع الميلادي إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر، ط1، ج3، ترجمة بولا البراموسي، دير البراموس – وادي النطرون 1997م، ص ص94-96.
(4) مرتيروس السرياني: تاريخ دير الأنبا يحسن كاما القديم، وادي النطرون سنة 1992م، ص65
(5) إيفيلين هوايت: المرجع السابق، ص96-97.
(6) مرقس سميكة: دليل المتحف القبطي، ج2، القاهرة 1932، ص ص223-235.
(7) رءوف حبيب: المرجع السابق، ص62.
(8) مجلة الكرازة: السنة23، العددان 45-46، 26هاتور1711ش/ ديسمبر1995، ص14
(9) ماجد عزت: المرجع السابق، ص178
(10) إيفيلين هوايت: المرجع السابق، ص 95.
(11) نفسه؛ رسالة مارمنيا، المرجع السابق، ص143.
(12) جريدة الأهرام، 18 إبريل 2008م.
(13) إيفيلين هوايت: المرجع السابق، ص 98.
(14) ماهر محروس: المرجع السابق، ص 145.
(15) نفسه.
(16) عمر طوسون: المرجع السابق، ص169
(17) مرتيروس السرياني: القديس العظيم أنبا يوحنا، القصير الشهير بأبو يحنس ، شركة النعام للطباعة والتوريدات، القاهرة 1995م، ص8.
(18) ماهر محروس: برية شيهيت بوادي النطرون، ط1، أرت لاين، القاهرة 2005، ص 145
(19) أبى المكارم: تاريخ الكنائس والأديرة، ج1، اعده للنشر أنبا صموئيل، د.ن، د.ت، ص 47؛ إيفيلين هوايت، المرجع السابق، ص 95.
(20) المقريزى: المرجع السابق، ص 73؛ إيفيلين هوايت، المرجع السابق، ص 95.
(21) صموئيل تاوضروس السرياني: الأديرة المصرية العامرة، ط1، المطبعة التجارية الحديثة، القاهرة 1968م، ص 77
(22) المصدر: هستوريا موناخورم.
(23) المصدر: محمد سميح عافية: المرجع السابق.
(24) المصدر: محكمة جامع الحاكم، سجل 573، مادة 1275، بتاريخ 12 ربيع أول 1121هـ/22 مايو 1709م، ص490.
(25) المصدر: عمر طوسون: المرجع السابق، ص213.

اضغط للتكبير

       
ملحق رقم (3)
الطرانة إحدى ولايات مصر حتى أوائل القرن التاسع عشر(24).
ملحق رقم (4)
موقع دير الأرمن بوادي النطرون(25
).
  ملحق (1) موقع وادي النطرون بالنسبة لخريطة مصر(22). ملحق (2) بحيرات الوادي(23).
       
  ملحق رقم (5) بقايا كنيسة أثرية بالنطرون   ملحق رقم (5) بعض مباني وادي النطرون الأثرية   ملحق رقم (5) مائدة طعام الرهبان  

 

شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ١ صوت عدد التعليقات: ٢ تعليق