في نهاية السبعينيات كنت طالباً بمدرسة ناصر الثانوية العسكرية بأسيوط وكان وقتها التيار الإسلامي – أو المتأسلم لو شننا الدقة – وفي ذروته ......... فعلى الصعيد العالمي كانت الولايات المتحدة الأمريكية تشجع وتدعم وتؤيد وتيارت وتمد كل ما هو إسلامي في أي بقعة في العالم رغبة منها القضاء على النفوذ السوفيتي المتواجد في مناطق كثيرة بما فيها منطقتنا العربية وعلى الصعيد المحلي كان الرئيس السادات – منذ بداية السبعينيات قد فتح الباب على مصراعيه للإسلاميين رغبة منه في القضاء على التيار الناصري وأطلق على نفسه لقب الرئيس المؤمن وقال كلمته المشهورة التي هدمت المواطنة من أساسها " أنا رئيس مسلم لدولة مسلمة " .
وللأسف كانت أسيوط هي أكبر تجمع للتيارات الإرهابية المتأسلمة على اختلاف مذاهبها لسببين : أولهما ببساطة أن بها أكبر جامعة في صعيد مصر وثانيهما وهو الأهم أن محافظها في ذلك الوقت – بكل أسف – كان هو السيد محمد عثمان إسماعيل وهو الرجل الذي كلفه السادات شخصياً بإنشاء الجماعات الإسلامية في كل جامعات مصر – وبالأخص طبعاً أسيوط مسقط رأسه والواقعة تماماً تحت سلطته وسطوته الحزبية – وقد عرف فيما بعد هذا العثمان الإسماعيل بلقب " مؤسس الجماعات في الجامعات " و الخراب و الدمار الذي خلفه هذا الرجل في أسيوط يحتاج إلى بحث خاص ... يكفي أن يعلم القارئ أن المحافظ كان هو الذي يمد الجماعات الإرهابية بالمال و السلاح ناهيه عن الدعم المعنوي والأدبي ... .
في هذا الوقت كانت مظاهرات الجماعات الإسلامية تجوب الشوارع ليل نهار وتهتف بمناسبة وبغير مناسبة :
إسلامية إسلامية ..... لا مسيحية ولا يهودية
يا ايران يا ايران ... مصر جايه يا ايران
أمن الدولة يا جبان ..... يا عميل الأمريكان .... الخ
و في خلال شهور قليلة جداً تم أسلمة المدرسة بالكامل – طبعاً و الشارع
و الجامعة و النوادي الرياضية و كل مناحي الحياة – فمثلاً تم كتابة شعارات في كل مكان على الجدران و النوافذ و السيارات مثل " إن الدين عند الله الإسلام " ومثل من ينبغي غير الإسلام ديناً فلن يقبل من وهو من الكافرين ...... وغيرها من الشعارات الاستعلائية التي تحقر من شأن الأقباط بالإضافة إلى محاضرات قصيرة بين الحصص تدعو المسلمين للصلاة
و الجهاد و مقاطعة النصارى الكفر و عدم مصادقتهم بل و عدم التعامل معهم مطلقاً و ناهيك عن اللفظية هذه التي تتم داخل المدرسة كان هناك الكثير من التحرشات البدنية خارج المدرسة تصل إلى الغرب بالقص و السنج و الجنازير وافتعال المشاجرات لأتفه الأسباب أو حتى بدون أسباب المهم في إحدى الأيام وأنا أتذكر تفاصيل هذا اليوم كما لو كان قد حدث بالأمس وأثناء الاستعداد لتحية العلم وبعد رفعي كالمعتاد في انتظار الهتاف التقليدي ثلاث مرات ... تحيا جمهورية مصر العربية وإذ بمجموعة كبيرة من المنتمين لهذه التيارات المتأسلم تهتف
لا اللــــه إلا اللــــه مــحــمــد رســــول الله
إسلامية إسلامية لا مسيحية ولا يهودية
يا إيران يا إيران مــصــر جـــــــاية يا إيران
وظلوا يرددون هذه الهتافات حتى يمنعوا أي فرد من ترديد التحية التقليدية للعلم المصري وطبعاً تدخل مدير المدرسة واستطاع السيطرة على الموقف ليبدأ اليوم الدراسي كالمعتاد وانصرف الجميع وهم في حالة ذهول مما حدث وظل الطلبة يتحاورون طوال اليوم وفي أثناء الفسحة مما حدث في الصباح وهل سيتم السيطرة عليه أما سيتكرر وما الفرق بين تحية العلم وبين الهتافات الدينية؟ ومنذ هذا اليوم أصبحت المدرسة تماماً تحت سيطرة الجماعات الإسلامية – خصوصاً في القسم الأدبي حيث كان أعضاء هذه الجماعات أكثر شراسة وفوضوية وأقل طلباً للعلم والالتزام من إفراد الجماعة في القسم العلمي – وظلت هذه التوتر تتصاعد بشدة يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر وللأسف دفع أقباط الصعيد خصوصاً في أسيوط فاتورة تعصب رئيس الدولة من ناحية ومحافظ الإقليم من ناحية وتعاطف نسبة ليست بقليلة من الشعب مع هذه التيارات من ناحية أخرى .
وللأسف أيضاً تجاهلت الأجهزة الأمنية تماماً كل شكاوى الأقباط من اعتداءات هذه الجماعات الإرهابية عليهم في المدارس والجامعات والشوارع عياناً بياناً في وضح النهار واستمر الوضع يزداد سوءاً وظلاماً إلى أن وصل إلى أن وصل إلى نهايته المأساوية المعروفة – والمتوقعة باغتيال السادات يوم 6 أكتوبر 1981 بيد أبنائه الذين قام هو بنفسه بتدعيمهم وتأييدهم والدفاع المطلق عنهم وتجاهل كل التقارير المرفوعة ضدهم ولذلك فإن كثيرين من المحللين السياسيين يقولون إن السادات لم يقتل ولكنه " انتحر بنفسه " على أي حال انتحر السادات أو نحروه أعضاء الجماعة الإسلامية كانت هذه هي عدالة السماء التي كافأت الرجل بمقدار فعله وأعطته حسب عمله ..... . هذه الأحداث المؤلمة حدثت منذ قرابة الثلاثين عاماً ولازالت أذكرها بكل تفاصيلها لعدة أسباب :
** السبب الأول هو هذا المد الإيراني الذي بات واضحاً للداني والقاضي والذي يريد الهيمنة على المنطقة ولذلك فهو يدعم كل التيارات الإرهابية بداية من حزب الله في لبنان وحماس في فلسطين وليس نهاية جماعة الأخوان في مصر .
ولهذا وإنما أتذكر هتافات هذه الجماعات
ياايران ياايران مــصــر جـــــــاية ياايران
ورغم أن الأخوان المسلمين سني والايرانيين شيعة مما يجعل التلاقي بينهم مستحيل حيث لا يلتقي الشامي مع الغربي إلا إن رغبة الأخوان في إقامة إمارة إسلامية تلاقت مع رغبة إيران في الهيمنة على المنطقة وهذا ما تؤكده كل الشواهد حالياً خصوصاً بعد أحداث غزة والتي أفصح فيها كل طرف عن نواياه صراحة وبدون مواربة بل وأصبح أحمد نجاد في إيران وحسن نصر الله في لبنان وخالد مشعل في سوريا هم نجوم معظم الفضائيات العربية ومعظم جرائد المعارضة إلى درجة أن أحد مذيعي إحدى الفضائيات العربية كان يسأل ضيف وكان هذا الضيف خليطاً من التأسلم والقومية العربية ... كان يسأله عن رأيه في رغبة إيران في الهيمنة على المنطقة فقال له " ولم لا ؟ مرحباً باستعمار العزة استعمار الكرامة وتباً لاستقلال التبعية "وطبعاً هذه المقولة الغريبة الشاذة تحتاج إلى دراسة نفسية وسوسيولوجيه عن ترحيب هؤلاء المتأسلميين بالاستعمار طالما أنه استعمار إسلامي ولكن هذا التحليل يحتاج إلى وقت كبير جداً فهناك أيضا من يحن إلى الخلافة العثمانية مرة أخرى لمجرد الحركة المسرحية التي قام بها "اردوغان" أثناء انعقاد مؤتمر دافوس ..... لماذا يرغب هؤلاء المتأسلميين في أن يتم استعمارنا مرة أخرى ..... لا أعلم .
المهم أن كل المؤشرات الموجودة حالياً تدل أنه لو أستمر الحال على ما هو عليه من خيانة علانية للوطن ورغبة دفينة للاحتلال من أي بلد إسلامي سواء كان وهابياً أو إيرانياً أو شيعاً .......... . فأننا سوف تدخل النفق المظلم وسيكون الخراب قادم لا محالة فالم تستفبق النخبة المثقفة المخلصة لهذه البلد وتعمل بكل قواها على منع تنفيذ المخطط الإيراني الحزب اللاوي الحمساوي الأخواني .
** السبب الثاني : الذي يجعلني أتذكر ما حدث في مدرستي منذ ثلاثة عاما تقريباً كما ذكرت سالفاً هو قصة مديرة مدرسة الأورمان للبنات والتي قامت بوضع شعار ديني فوق العلم المصري وقامت بعملية أسلمه وهابية للمدرسة من خلال الشعارات الإسلامية التي ملأت بها المدرسة – تماماً مثل مدرستي – ولكن الفارق الآن كبير فقديماً من قام بعملية الأسلمة كانوا أعضاء الجماعات الإسلامية وحاولت المدرسة قدر استطاعتها منع هذه الأسلمة القهرية للطلبة ولكن ما يحدث الآن اغرب من الخيال.
فكيف تجرؤ مديرة مدرسة – تربوية بالأساس – بوضع أي رمز أو شعار فوق علم الدولة دون خوف من مساءلة أو محاسبة ؟
إن إعلاء أي شعار أو علم أو رمز فوق العلم المصري هو خيانة علانية للمواطن و قتل رسمي للانتماء و هى أبسط حقوق الإنسان النفسية – الشعور بالانتماء لمجموعة .
لقد أصبحت مصر للأسف في الآونة الأخيرة مباحة ومتاحة لأي قوى خارجية تريد أن تفرض هيمنتها عليها وللأسف أيضاً فكل هذه القوى ظلامية رجعية سلطوية فنحن الآن ما بين مطرقة الوهابين وسندان الفارسية أي إننا تدهورنا عن الخمس سنوات السابقة ،وللأسف فأن سواء الوهابين أو الفارسين لن تأتى علينا إلا بالدمار و الخراب و لهذا اخترت عنوان مقالي "يا أيها الرمل ارتحل واذهب إلى شأنك يا جراد"
وهذه الأبيات هى المرثية التي قالها شاعرنا العظيم أحمد عبد المعطى حجازي في رثاء شهيد الكلمة الدكتور فرج فوده الذي وقع خيانة ثمناً لولائه ومحبته وإخلاصه لتراب هذه البلد الذي يعجز عنه إن مصر اليوم بحاجة إلى مليون فرج فوده ليدافعوا عن أرضها وترابها وليقفوا سداً منيعاً ضد طيور الظلام هذه...... تلك الغربان الناعقة التي لا تأتي إلا بالخراب .... هذا الجراد الذي يأكل الأخضر واليابس ما أحوج مصر الآن إلى مليون فرج فوده حتى تتمكن من تجديد الذهنية القديمة المتعفنة من العنصرية والطائفية والطيفية إلى ذهنية التآلف والمساواة والحرية.
أن حق الإنسان – أي إنسان – في أبداء الرأي والبعد عن النفس وحرية العبادة وتقرير المصير وحقه في العدالة والحرية والمساواة هي ليست شعارات يطلبها رجالات السياسة والاجتماع ولكنها خصائص أصلية وهبها الله للإنسان لتكون جزءاً من كيانه وطبيعته هذه القيم والخصائص هي قيم إنسانية وعالمية تصلح لأي إنسان في أي مجتمع وليس كما يرجح البعض للأسف – أن الحرية والعدالة والمساواة ودولة القانون هي فقط للغرب إما نحن في الشرق فلا نستحقها .
ومصر أيضاً بحاجة إلى مليون عبد المعطي حجازي حتى يرفعونا إلى الحداثة والتقدم والعقلانية والإبداع بدلاً من الرجعية والتخلف والخرافة والجمود .
أود أن أختم مقالتي هذه بما قال الشاعر العظيم حافظ إبراهيم مستخدماً شعره
ليستقبل به الجديد والحديث الآتي من الغرب :
فارفعوا هذه الكمائم عنا
ودعونا نشم ريح الشمال
Amgad _Khairy @ hotmail .com |