بقلم: نبيل شرف الدين
قطار الصعيد ليس كمثله قطارات.. إنه عالم كامل من الفانتازيا الإنسانية، ربما يكون أكثر تعبيراً عن روح المصريين من ذلك المبنى القابع فى قلب القاهرة الشهير بـ«سيد قراره»، فقطار الصعيد مثلاً متسامح لأبعد الحدود عن «المجلس الموقر»، إذ يحمل مزدوجى الجنسية، بل وحتى للأجانب فيه حضور دائم، وكل من يملك ثمن التذكرة، أو يغامر اعتماداً على قدراته بخداع المحصل، من فصيلة «اللى مش بيقولوا للغلط لأ».
لا أفضل عبارة «قُدر لى ركوب القطار»، ففضلاً عن كونها سخيفة ومستهلكة، فهى كاذبة أيضاً، لأنها توحى بأننى لست من «أهل القطارات»، والحقيقة أن بينى وبينها تراثاً طويلاً، بدأ بالأحلام والأمنيات والمغامرات، ولم ينته بعد، وحياتى ذاتها مجرد سلسلة محطات.
لهذا، فضّلت فى رحلة ذهابى لقضاء أيام عيد الفطر فى قريتى بالصعيد أن أكون مراقباً لركاب القطار وسلوكهم، ساعدتنى فى هذه المهمة هيئتى التى كانت أقرب لحالة تنكر، فقد ارتديت الجلباب الصعيدى وفوقه العباءة، وعلى عينى نظارة شمسية، بحيث لا يمكن أن يعرفنى سوى أبناء جلدتي، الصعايدة الماكرين الذين لا يعرفون الناس اعتماداً على حاسة النظر، بل بحواس أخرى.
المهم جلست بجوار النافذة، وحلقت بعينى فى المدى، أكاد أحفظ أسماء كل هذه القرى، وأعرف مواقع الأشجار والحقول، لهذا اعترانى الملل، ورحت أتابع مناقشة بين شابين فى المقعد المقابل.
ولما كان مظهرى لا يدعو للقلق، إذ بدوت كأحد التجار أو المزارعين العائدين من القاهرة، راح أحد الشابين يتحدث بحرية مع صاحبه متسائلاً: هل يصلى الريس العيد فى شرم الشيخ؟ فرد صاحبه، وما الجديد فى الأمر؟ إنه يصلى ويصوم ويفطر ويدعو لمؤتمرات هناك.
قال الشاب: استوقفتنى مسألة بسيطة لكنها مهمة، وهى أن كل الوزراء والمسؤولين من رئيس الحكومة حتى شيخ الأزهر يصلون هناك، أليس هذا خطيراً؟!
ألجمت الدهشة صاحبه قبل أن يستجمع قدراته، ويشحذ ذهنه قائلاً: فعلاً، هذا خطر يمكن لو حدث لا قدر الله مكروه أن يذهب كل رجال الدولة دفعة واحدة، وهذا من شأنه أن يدخل البلد فى دوامة، وحتى الوجوه المبشرة بالخير فى المستقبل، كالسيد جمال مبارك وصحبه الغر الميامين فى أمانة السياسات.
ومضى صاحبنا قائلاً: «إنه ينبغى ألا يجتمع كل هذا الحشد من رجالات الدولة فى مكان واحد، خاصة أن بلادنا مستهدفة من الأمريكان والطالبان وتنظيم القاعدة والموساد، وربما من عملاء مندسين لا نعرفهم، لهذا يجب أن نفعل شيئاً، ومن جانبى سأرفع توصية إلى اللجان القاعدية بالحزب لتسجيل موقف».
فى هذه اللحظة، كان زميل صاحبنا ينظر إليه كأنه يحدق بشاشة كمبيوتر، يمنحه كل حواسه كمن يطلق «نكات وحكايات مثيرة»، وما إن توقف عن الكلام حتى انفجر فيه مغتاظاً: «يا بنى آدم أنا لست شرطياً حتى أتحدث فى الأمور الأمنية، فهى بالتأكيد مدروسة بعناية وهناك من ينفذها بصرامة، أنا أقصد شيئاً آخر».
وقبل أن يرد صاحبنا باغته مرافقه بسؤال: «ما أريد أن أعرفه هو أين يقيم المسؤولون والوزراء الذين يسافرون لشرم الشيخ لقضاء عطلة العيد وصلاته مع الرئيس، ومن يتحمل نفقات هؤلاء ومرافقيهم من طواقم الحراسة والسكرتارية وغيرهم، أليست الخزانة العامة؟».
كان صاحبنا فاغراً فاه، وهو يستمع لزميله الذى يفكك المشهد بطريقة الحواة، ومضى فى تساؤلاته التى تبدو بريئة، ومن حق أى مواطن يحمل رقماً قومياً أن يطرحها، ليصل لفضيلة شيخ الأزهر: من يصلى بالناس فى الأزهر إذا كان شيخه فى شرم؟،
وهل ينبغى أن يذهب الأزهر للرئيس، أم العكس هو ما يجب أن يحدث؟ وهل تجوز الصلاة على نفقة الدولة؟ بمعنى أنها تقتضى نفقات سفر وإقامة وخلافه، تدفع من المال العام فى صورة بدلات سفر وتمثيل ومصاريف سرية، وليست من جيوب المسؤولين الشخصية.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com