عندما تشكك بعض علماء الفيزياء النووية فى مبدأ العلية الذى يقرر أن لكل معلولة علة بالضرورة انتقد أينشتين هذا التشكك وقال عبارته المشهورة وهو يخرج لسانه: إن الله لا يلعب النرد. ومغزى هذه العبارة أن مَنْ يرمى النرد يجهل تماما نتيجة الرمى، إذ المسألة كلها تخضع للصدفة.
أما أنا فأقول إن الله لا يلعب سياسة فى مواجهة الأصوليين (أقصد الإخوان المسلمين والسلفيين) الذين يتوهمون أنهم على وعى مطلق بشرع الله وأنهم، بالتالى، قادرون وحدهم دون غيرهم على تشغيل هذا الشرع فى المجال السياسى على الرغم من أن هذا المجال ينطوى على صراعات ومصادمات وتحايلات، وعلى فنون الخداع والمراوغات، وعندئذ يهتز شرع الله بالضرورة ولكنهم لا يبالون بهذا الاهتزاز طالما أن المادة الثانية من الدستور باقية على الدوام. إلا أن هذا الدوام وهمى لأن الخبرة الإنسانية فى مسارها الحضارى تعلمت درسا حضاريا وهو عند حدوث الوهم بأن شرع المطلق - سواء كان هذا المطلق هو الله أو هو الدولة - يجب أن يطبق على شرع النسبى فالنتيجة الحتمية أن الغلبة لشرع النسبى. وقد حدثت هذه النتيجة الحتمية فى العصور الوسطى الأوروبية وفى الدولة العثمانية الإسلامية وفى ألمانيا فى زمن هتلر وفى إيطاليا فى زمن موسولينى. ففى هذه البلدان جميعا انهار المطلق وانهار معه كل ما لازمه من قهر وطغيان.
وعندما فطن بعض المثقفين إلى ضرورة مواجهة الأصوليين خشية تأسيسهم لدولة دينية دعوا إلى تأسيس دولة مدنية، والمفاجأة هنا أن الأصوليين وافقوا على أن تكون الدولة مدنية ولكن بمرجعية إسلامية. وعندئذ انهزم هؤلاء المثقفون وهزيمتهم، فى رأيى، مردودة إلى الالتباس الكامن فى لفظ «مدنى» إذ قد يكون مضادا للفظ «ريفى»، وقد يكون مضاداً للفظ «عسكرى» ولكنه لا يمكن بأى حال من الأحوال أن يكون مضاداً لما هو «إسلامى»، لأنك إذا اعترضت فى هذه الحالة فأنت ملحد وكافر وزنديق وعدو الدين.
وكان من الممكن إزالة هذا الالتباس لو أن عقل هؤلاء المثقفين لديه الجرأة والجسارة على نطق لفظ «علمانية» لأن العلمانية حسب تعريفى لها أنها التفكير فى النسبى بما هو نسبى وليس بما هو مطلق. وبهذا التعريف تكون العلمانية نقيض الأصولية التى هى التفكير فى النسبى بما هو مطلق وليس بما هو نسبى.
وأظن أن تعريفى للعلمانية قد شاع داخليا وخارجيا ومن ثم فأنا أظن أيضا أن هذا الشيوع قد أفضى بالأصوليين إلى تحصين المادة الثانية من إجراء أى تلاعب بها فطالبوا بإضافة مادة ثالثة فى الدستور القادم تنص على أن «السيادة لله» وليست للشعب. ومغزى هذه الإضافة أن تكون السيادة لله وحده دون الشعب. وإذا كان ذلك كذلك يكون سيد قطب محقا فى دعوته إلى أن الحاكمية لله ويكون سيد قطب هو المنظر للأصولية الإسلامية (أى الإخوان المسلمين والسلفيين)، بل هو المنظر للمجتمع الإسلامى القادم. والمفارقة هنا أن ليس ثمة تيار له تاريخ فى مقاومة هذه الأصولية. وتكذيب هذه المفارقة بالقول بأن لدينا الشيخ على عبدالرازق وطه حسين ونجيب محفوظ وفرج فودة ونصر أبوزيد فهذا التكذيب مردود عليه بأن هؤلاء لم يؤسسوا تياراً علمانياً.
كانوا مجرد أفراد قالوا كلمتهم ورحلوا مقهورين لأن الساحة الثقافية كانت خالية من الجرأة الثقافية التى تحث على تأسيس التيار المنشود، لأن الغالبية المثقفة كانت مهمومة بتطلعها إلى أن تكون فى حضن السلطة السياسية، وفى حالة الفشل فى تحقيق هذا الهم كانت تتفرغ لتدمير هذه السلطة. وفى تقديرى أن الهم الأكبر لهذه الغالبية المثقفة كان ينبغى أن يتجه إلى تغيير الذهنية المتخلفة للجماهير حتى لا تقع فى فخ الأصولية الدينية.
نقلا عن المصري اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com