كانت الساعة تقترب من السادسة مساء حينما دلفنا إلى منزله الكائن بميدان الجيش في منطقة العباسية بالقاهرة، أذهلنا ما رأيناه من كتب مرصوصة على كافة الجدران، وكان هو جالسا وراء مكتبه وأكوام من الأوراق والمجلات والصحف القديمة أمامه..
بدأنا على الفور في الحوار الذي امتد لنحو ساعين ناقشنا فيها الأوضاع الراهنة وكثير من الحوادث في عمر جماعة الإخوان المسلمين منذ لحظة تأسيسها على يد شقيقه الأكبر الإمام حسن البنا قبل أكثر من ثمانين عاما..
الصراع على السلطة
يلخص جمال عبد الرحمن البنا (82 سنة) الوضع في مصر الآن بأنه نتيجة 'الصراع على السلطة'، فهو يرى أن 'الثورة فقدت ثوريتها'، ويوضح أن مبارك الذي وصفه بـ'المجرم الأثيم'، سلم البلد للمجلس الأعلى للقوات المسلحة ولم يفعل كما فعل زين العابدين بين علي في تونس، ويرى أنه أوقع مصر بفعلته هذه 'تحت رحمة 25 ضابطا'.
يقول البنا، الذي وصف علاقته بأخيه الأكبر مؤسس الإخوان بأنها كانت علاقة جدلية، 'إن المجلس العسكري أدار البلد بميكافيلية، بمعنى أنه أعلن أنه في صف الثورة وضرب تعظيما سلاما للشهداء وأنه لا يسعى إلى السلطة'.
ويضيف 'الأمر يبدو غريبا إذا نظرنا إلى الطريقة التي أدار بها المجلس العسكري تلك الفترة، فهذه أبدا لم تكن بسياسة ثورة؛ فكان لابد من وسائل غير تقليدية مثل حل المجلس النيابية والحزب الوطني وتحفظ على أموال 10 آلاف أو 20 ألفا شخص من المستفيدين من النظام السابق ويلقى القبض على رموز النظام حتى لا تهرب الأموال'.
ويلفت أنه بتلك الإجراءات كان سيتم 'تأمين الثورة وحمايتها من الانقلاب عليها'.
أولى الانحرافات
يوضح البنا أن التعديلات الدستورية هي أولى الخطوات 'المشؤومة' وأول 'الانحرافات'، ويقول 'هذه التعديلات كان مبارك نفسه يطالب بها، وهي ليست لها أي قيمة فدستور 71 الذي أجريت عليه هذه التعديلات ممزق ومهلهل لآخر درجة ولأي مطلقا'.
وكان جمال البنا من أنصار التصويت بلا في الاستفتاء على التعديلات الدستورية، ويبرر ذلك بأن أول شيء تفعله الثورات هو القضاء على الدستور القديم من أجل إقامة النظام الجديد على أساس سليم.. لكننا بدأنا بالمقلوب'.
تحالف
وبحسب البنا فإن 'المجلس العسكري رزق بحلفاء من الإخوان، فالأول (العسكري) أراد أن يترتب نظام تفقد به الثورة ثوريتها والثاني (الإخوان) يريد السلطة.. وهذا كان بداية الانحرافات'.
ويعود بنا البنا إلى الوراء عشرات السنين ليقول إن 'الأستاذ البنا كان يكره الأحزاب لأنها دائما تؤثر مصلحتها الخاصة على المصلحة الوطنية، فكل همها الحكم وإذا كان ائتلافيا فكم سيكون نصيبها؟.. وهذا ما وقع فيه الإخوان للأسف'.
ويضيف أن مؤسس الجماعة كان يرى أن السياسة ليست عمل الإخوان، حتى أنه كتب عدة مقالات سنة 1946، قال فيها: 'السياسة تجعل الرجل الصادق كاذب.. والنبيل دنيء.. إلخ.' وقال أيضا 'نحن لسنا حزبيين، لكن وطنيين'.
انتهازية
ويؤكد أن 'الإخوان أرادوا انتهاز الفرصة قبل أن تتمكن أي هيئة أو حزب من تنظيم نفسها، ولو أن الإخوان يعملون لمصلحة البلد لكانوا صوتوا بلا في استفتاء مارس.. هذه أولى جنايات العمل السياسي من هيئة دينية'.
وقال جمال البنا إن الإخوان كان يجب أن يكونوا من الفطنة بحيث يتفادوا السلطة ويبعدوا عنها بدلا من أن يغريهم الشيطان بأن الاستحواذ عليها سيكون في مصلحة الدعوة.. وهذا خطأ جسيم لأن السلطة تُعمي وتَصم'.
ويؤكد أنه لو أن الإخوان عملوا بمنهج حسن البنا في إصلاح القرية من محو أمية والقضاء على فقر والبطالة، لكان حال البلد أفضل، على حد قوله.
ويفسر البنا صعود تيارات الإسلام السياسي في أعقاب ثورات الربيع العربي بالقول إن 'هذا يعود في الأساس إلى ظاهرة أكبر وأقوى وهي أن الدين من أقوى العناصر المؤثرة في المنطقة، وهذه ظاهرة موجودة منذ قديم الأزل'.
ويقف البنا في صف المعارضين لقرار حل مجلس الشعب، ويرى أن هذه سابقة لم تحدث في العصر الحديث، فمجلس النواب المنتخب في العصر الملكي – كما يقول – لم يكن ليحل إلا بقرار من الملك أو الإنجليز'.
مبادئ لا أحكام
كما أنه يرى أنه لابد من الإبقاء على المادة الثانية من الدستور كما هي بكلمة مبادئ، ويعارض بشدة استبدالها بكلمة أحكام، فهو يقول: 'ليس هناك إضلالا من كلمة أحكام، فأحكام الشريعة متفاوتة وعديدة.. والمبادئ ثابتة في الروح أما الأحكام فهي الجسم'.
واقتصر حديثه عن السلفيين بالتأكيد على ضرورة تجاوزهم؛ فهو يرى أن جواز المرور للسلفية يقتصر على 'لحية للرجل ونقاب للمرأة'.
التنظيم السري
ويؤكد شقيق مؤسس الإخوان المسلمين على أن الجماعة كان لديها تنظيم سري سمي وقتها بـ 'التنظيم الخاص'، وبدايته – كما يقول – كانت عندما تعرف البنا على مفتي القدس في ثلاثينات القرن الماضي أمين الحسيني الذي كان صديقا لبعض بشاوات العصر الملكي مثل عبد الرحمن عزام باشا، أول أمين عام للجامعة العربية'.
ويضيف: في هذه الأوقات كانت فرق الهجانة اليهودية تحارب الفلسطينيين، فطلب الحسيني من البنا بأن يقوم الإخوان المسلمين بنقل السلاح إلى الفلسطينيين عن طريق الهيئة العربية بموافقة ضمنية من الحكومة المصرية وقتها.. (أشار البنا إلى مؤلَف جديد له قيد الطبع تحت عنوان 'يوميات وحوليات' يوضح فيه بالتواريخ إنشاء الجماعة تنظيمها السري وغير ذلك من الأمور).
اغتيال النقراشي
ويقول إن 'النظام الخاص أنشأ سنة 1940 وتشكل من صالح عشماوي وحسين كمال الدين ومحمود عبد الحليم وحامد شريت وعبد العزيز أحمد'، ويؤكد أيضا أن التنظيم السري هو الذي يقف وراء مقتل النقراشي باشا رئيس الوزارة في العصر الملكي في 28 ديسمبر سنة 1948، وتم بعلم حسن البنا نفسه'.
إلا أنه يرى أن هذا الاغتيال كان مبررا، مشيرا إلى أنه جاء انتقاما من حل جماعة الإخوان المسلمين، وكان البنا وقتها (وقت الحل) في السعودية وحينما عاد حاول بشتى الطرق إلغاء القرار وإطلاق سراح من اعتقل من الإخوان على خلفية القرار.
ضغوط وضربات
ويلفت إلى أن 'حسن البنا وقع تحت ضغوط كبيرة من أسر المعتقلين الذين تجمعوا أمام بيته، فزاد البنا من إلحاحه على الحكومة التي اعتبرت هذا ضعفا من البنا.. فما كان إلا أن تمت عملية الاغتيال انتقاما من قرار الحل'، على حد قوله.
وحول ما قيل بأن التنظيم الخاص تم حله بعد حرب 48، أكد البنا أن التنظيم لم يحل حتى أن المستشار مأمون الهضيبي، المرشد الثاني لجماعة الإخوان، حاول لكنه لم يفلح'.
وقال البنا إن التنظيم السري بدأ يضعف مع ضعف جماعة الإخوان نتيجة 'الضربات واللكمات' التي تلقتها الجماعة خلال الخمسينات والستينيات.
وختم البنا حديثه بأن الإخوان المسلمين تخلوا عن نهج حسن البنا، ولم يحاولوا تجديد فكره، 'فالجو أصبح بعد وفاة البنا يحكمه العنف وليس العقل، وفي ظل هذا المناخ نجح التيار القطبي بفكره ونهجه، حتى بدأت الجماعة الإسلامية في عمل مراجعاتها الشهيرة في تسعينات القرن الماضي'.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com