من أشهر المقولات التي توقفت عندها كثيرا في دراستي لبواكير عصر النهضة الأوروبية (الرنيسانس) ونهاية العصور الوسطي، مقولة "البابا لا يخطئ"، وهي تشير – للوهلة الأولي - إلي (عصمة البابا) من الخطأ مما يضفي عليه صفات الآلهة وليس البشر. ولكن بعد سنوات طويلة أكتشفت عند أحد الزنادقة من الرهبان المتفلسفين ويدعي " توماسو كامبانيللا" أن مقولة "البابا لا يخطئ" ليس لها أي معني لاهوتي أو ديني علي الاطلاق، وأن الغرض منها (قانوني) وهو : ألا يأتي البابا اللاحق ويلغي – حسب رؤاه أو ميوله - قرارات البابا السابق.. مما قد يفقد رجال الدين (الإكليروس) هيبتهم ومصداقيتهم أمام الشعب، ناهيك عن حالة " البلبلة " والشك التي يحدثها " التغير" و"التغيير" وهما علي النقيض من الثبات والاستقرار في دائرة "الإيمان".
ويبدو أن فكرة " البابا لا يخطئ " ومدلولها الجديد قد تسرب – جزئيا - إلي عالم السياسة والقانون في العصر الحديث، وأصبح أحد أهم دعائم العلاقات الدولية والمعاهدات السياسية، فلا يجوز لرئيس جديد لدولة ما أن يلغي اتفاقية سابقة أو ينقض إحدي الالتزامات التي تعهد بها النظام السابق، إلا في حدود استثنائية مثل "حالة الحرب" أو عقب "ثورة" أدت إلي تغيير النظام القديم. وينطبق ذلك – إلي حد ما - علي مصر بعد ثورة 25 يناير 2011 ومعاهدة " كامب ديفيد " للسلام مع اسرائيل عام 1979 التي وقعها الرئيس الراحل أنور السادات مع رئيس وزراء اسرائيل " مناحم بيجين " وبرعاية الرئيس الأمريكي "جيمي كارتر".
والمتابع للتيارات السياسية في مصر من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار، سيجد أن ما يجمع بينها – رغم الاختلافات الجذرية – أمر واحد وحيد هو " إلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل "، ولذلك فإن الإعلان عن (إلغاء اتفاقية تصدير الغاز إلي إسرائيل) لاقي ترحيبا شعبيا كبيرا وربما (سحب البساط) من تحت أرجل المرشحين للرئاسة مجتمعين، وفي مقدمتهم الإسلاميين الذين يضغطون بشدة علي هذا الوتر، وصرح أحد أقطاب الجماعة الإسلامية اليوم بأن وقف تصدير الغاز هو " تصحيح لخطأ " وكان أولي به " غزة " من " تل أبيب ". أما مسألة " تحرير القدس " فهي أهم الشعارات الملتهبة والملهبة للوجدان الشعبي في 28 مليونية بميدان التحرير.
اتفاقية تصدير الغاز إلي اسرائيل لم تكن ضمن معاهدة " كامب ديفيد " قبل 33 عاما (البترول فقط)، لأن الغاز الطبيعي لم يكن قد اكتشف بعد في مصر، وقد وقعتها الحكومة المصرية عام 2005 (وأضيفت كملحق اقتصادي للمعاهدة) وقضت بموجبها بتصدير 1.7 مليار متر مكعب سنويا من الغاز الطبيعى لمدة 20 عاما، كما حصلت شركة الغاز الإسرائيلية على إعفاء ضريبى من الحكومة المصرية لمدة 3 سنوات من 2005 إلى 2008. ومن هنا فإن القضية اقتصادية – كما يبدو في الظاهر - وليست سياسية كما قال سفير مصر في اسرائيل " ياسر رضا " :" الخلاف تجاري بحت لأن مصر تريد الاستقرار الإقليمي واستمرار العلاقات الطيبة بين البلدين".
معني ذلك أن القرار تجاري يستند علي منطق قانوني، ويمكن إعادة تصدير الغاز إلي اسرائيل إذا ما أزيلت المخالفة القانونية وهو ما صرحت به " فايزة أبو النجا " وزيرة التخطيط والتعاون الدولى، فقد أخلت اسرائيل بالالتزامات المالية المنصوص عليها في الاتفاقية بين القاهرة وتل أبيب منذ 13 مارس الماضي مما اعتبر العقد مفسوخا من تلقاء نفسه.
تصريحات المشير " حسين طنطاوي " قد تفك جزءا من لغز " إلغاء اتفاقية تصدير الغاز ".. قال اليوم، عقب المناورة " نصر – 7 " : شعارنا دائماً "النصر أو الشهادة".. استعدادنا القتالى مستمر.. وسنكسر أرجل من يعتدى على حدودنا.. ولا دخل لنا فى السياسة. معني ذلك – في العمق - أن القرار سياسي يخص " الحكومة " وليس المجلس العسكري، لأن مصر لا تريد الحرب مع أي من جيرانها إلا إذا انتهكت حدودها (وهذا طبيعي)، لأنه - بعد الثورة التي اطاحت بكنز اسرائيل الاستراتيجي (مبارك وبعض رجاله) وهذه المرحلة الانتقالية الكارثية في عهد العسكر – مصر بحاجة إلي فترة من الهدوء لإعادة ترتيب أوضاعها الداخلية.
في تصوري - وفقا لمقولة " البابا لا يخطئ " - فإن ما حدث في الساعات القليلة الماضية هو أخطر ما تم بالنسبة لمستقبل العلاقات بين مصر واسرائيل، وأن المجلس العسكري وحكومة الجنزوري (فايزة أبو النجا) أثبتوا للولايات المتحدة أنهم (أذكي القوي السياسية في مصر الآن). فسخ العقد (الذي تم توقيعه في العهد السابق الفاسد) في صالح اسرائيل أولا وأخيرا، وهو عربون استقرار العلاقات الاستراتيجية والضامن لمعاهدة " كامب ديفيد للسلام " (التي لا تخطئ)، ففي ظل الهوجة الإسلامية العاتية وأرتفاع موجات العداء لإسرائيل بعد الثورة لعنان السماء، يصبح إبرام " العقد الجديد " لإتفاقية الغاز مع اسرائيل – مع رفع السعر – ضرورة قصوي، لأنه يقطع الطريق علي أي رئيس مصري قادم – يساوره عقله – ويلغي اتفاقية الغاز مع اسرائيل أو ينقض اتفاقية السلام، ومن ثم يدخل البلد في مغامرات غير محسوبة أو لحساب أطراف أخري في المنطقة.
ملحوظة : زيارة مفتي الديار المصرية إلي القدس قبل إلغاء اتفاقية تصدير الغاز، وتفاقم أزمة الغاز والسولار والبنزين في مصر ثم تفجير شركة بترول السويس، بالتزامن مع تفجير خط الغاز الطبيعي في العريش وسيناء أكثر من 15 مرة لا علاقة له بالسطور السابقة.
نقلا عن ايلاف
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com