«الشيطان شاطر» كما يقول المثل المصري في التحذير من مغبة الخلوة «غير الشرعية»؛ لكن يبدو أن شيطان السياسة شاطر جدا حين تخلو جماعة الإخوان بعد صيام طويل بالسلطة. الكثير من التعليقات ظهرت حول مواقف «الإخوان» المتناقضة، ربما كان أطرفها ما قاله الفنان الكوميدي محمد صبحي بأن «الإخوان» مثل عداء ركض طويلا وحين فاز أصر على شرب كل الماء المعد للمتسابقين.
هل غلطة الشاطر بألف؟ أم أن الأمر شاطر ومشطور وبينهما جيش وعسكر؟ هناك عشرات من الأسئلة المسدلة على الفصل الأكثر إرباكا في مسرح «الإخوان» السياسي والدرامي بامتياز، والذي يبدو أنه فاجأ الكثير ممن لا يعرفون «الإخوان» جيدا أو يقرأون السياسة بنظارات أخلاقية.
الأكيد أن ما فعله «الإخوان» هو جزء من اللعبة السياسية التي تتقنها الجماعة أكثر من خصومها، ويحاول المجلس العسكري أن يجاري «الإخوان» في مهارات اللعبة من دون أن نعرف من ينتصر، بعد أن تحولت الفرق الأخرى من ملعب المناورة السياسية إلى خانة الجمهور بما تحمله المدرجات من شغب وصراخ وهستيريا لا تزيد المتبارين إلا حماسة وميلا للمزيد من الاستقطاب.
يرسم «الإخوان» والعسكر الليبراليين والقوى السياسية التي لا تتقن سوى الحديث في الفضائيات بأدوات نقدية بالية، وشباب الثورة المغلوب على أمره والذي دفع ثمن مراهقته السياسية خارج اللعبة الآن، وحتى التيار السلفي أظهر فطنة سياسية تمثلت في براغماتية ذكية حين أعلن عن دعمه لمرشح «الإخوان» خيرت الشاطر من دون أن يمتطي جواد الأخلاق ويعلن كما كتب بعض الليبراليين أن «الإخوان» منافقون لأنهم حين وعدوا أخلفوا وحين تحدثوا كذبوا، كما أنهم خانوا أمانة ميدان التحرير الذي لم يكن يدور ببال الرابضين فيه من الشباب أن تؤول الأمور إلى ما آلت إليه.
المثير في الأمر أن شخصيات تاريخية محسوبة على «الإخوان» في مصر والخليج وقعت في فخ «الأخلاقية» المزيف في محاولة لعدم خسارة سمعتها في حال بررت سلوك «الإخوان» السياسي بامتياز، واللاأخلاقي بامتياز أيضا.
في الطرف الآخر حاول مفكرون متعاطفون مع الإسلام السياسي كفهمي هويدي وآخرين على طريقة «الفخ»، وأن «الإخوان» وقعوا في مصيدة «المؤسسة العسكرية» التي تريد منهم أن يستأثروا بالكعكة السياسية ليسهل الانقلاب عليهم عبر تأليب الشارع، وخلق أعداء جدد، وأبرزهم الأزهر المستاء من قضية كتابة الدستور، هذا بالإضافة إلى عدم قدرة «الإخوان» على التعامل مع العديد من الدول العربية التي تتوجس منها؛ وفي نهاية المطاف يقر هؤلاء بأن «الإخوان» غير جاهزين تماما لتحمل كل هذه المسؤوليات التي يحصدونها.
من وجهة نظري هنا خلط شديد في قراءة «الإخوان» سببه «الإخوان» أنفسهم؛ فالجماعة «المحظورة» باتت تمارس السياسة بريموت المرشد العام وليس من خلال «العدالة والتنمية»، فلك أن تتخيل أن مسألة حسم تقديم مرشح الرئاسة لم يتم طرحه على الحزب وإنما في مجلس شورى «الإخوان» على طريقة «السقيفة»، وفي النهاية صدر القرار بفارق صوتين فقط، كما أن تصريحات المرشد ما بعد الثورة ليست إلا تأكيدا لنظرة الجماعة الشمولية التي تقترب من حدود الأبوية، حيث الجماعة فوق منطق الدولة بسبب أن مرجعيتها الإسلامية من وجهة نظرها مرجعية حاكمية وليست تجربة بشرية موازية للأحزاب السياسية الأخرى، وهنا مكمن الغلط واللغط؛ فالجماعة تنظر إلى نفسها كمرجعية، والسياسيون يحاكمونها وفق هذه النظرة «الدينية».
المقلق حقا ليس موقف «الإخوان» بل صمت المجلس العسكري؛ فموقف «الإخوان» مع احترامي لكل المناوئين لهم موقف سياسي براغماتي وذكي لأنه رسالة تستفز صمت المجلس العسكري، ورسالة إلى المرشحين الإسلاميين المنشقين عنهم أو السلفيين، حيث يدركون أن كوادر «الإخوان» يمكن أن تقلب عليهم الشارع نوعا باستقطاب فئات مؤثرة في التصويت، وهذا الموقف رسالة للمجتمع الدولي أيضا بأن من يريد أن يفاوض على الشأن المصري يجب ألا يستبعد الجماعة.
الأقرب أن المجلس العسكري تفاوض مبكرا مع «الإخوان» ومن قبلهم أو بعدهم الأميركان، والخلاف كما يمكن استنباطه من بيانات المجلس العسكري هو على أي جزء من السلطة يمكن أن تأخذه الجماعة من دون أن تصطدم بمؤسسات الجيش الاقتصادية على وجه الخصوص، وما يحدث الآن هو فقط تأجيل للصدام بطريقة ذكية من الطرفين.. المجلس العسكري يلوح بأنه ربما استخدم العنف ضد من يريد العبث بالوطن ولو كان من أبنائه، بينما «الإخوان» لا يستثنون من خطابهم الجديد أيا من مؤسسات الدولة في إشارة إلى حصة الجيش من الكعكة الاقتصادية، والكل يتحدث بلغة غير دنيوية، فـ«الإخوان» يفكرون في مصلحة الأمة، والجيش يتحدث باسم الوطن؛ في حين أن مستقبل «الدولة» المعترك الحقيقي غامض جدا، حيث كم هائل من الأسئلة المعلقة التي يصمت عنها الطرفان، فما هو مثلا مستقبل منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة؟ وكيف سيتم التعامل مع الأذرع الاقتصادية للمؤسسة العسكرية؟ هل يملك «الإخوان» جناحا عسكريا؟ (بالمناسبة خيرت الشاطر كان متهما في قضية العرض العسكري).
مشروع «اختطاف» الدولة بشرعية سياسية فكرة ليست نابتة أو رد فعل من الجماعة؛ وإنما أمر بُيّت بليل أو نهار، وباتفاق مع المجلس العسكري والولايات المتحدة التي تسوق للنموذج الإخواني باعتباره يمكن السيطرة عليه سياسيا بغض النظر عن أدائه في ملف الحريات والحقوق والتعددية، وكأن الأمر إعادة تدوير للديكتاتور ولكن بطريقة ولغة وأدوات ديمقراطية ومضامين سلطوية تضمن حالة الاستقرار بقوة «الغلبة».
والسؤال الأهم: لماذا لا يتم اللعب على المكشوف، بدل استخدام شعارات دينية؟.. أو كما يقول عشاق «الإخوان» العاتبون على الجماعة: أليس دعم أبو الفتوح المؤيد من أغلبية القوى السياسية فيه خدمة للتيار الإسلامي؟.. وماذا سيفرق لو فاز حازم أبو إسماعيل الذي كان إخوانيا يوما ما؟
الأكيد أن «الإخوان» هم الأقدر على قراءة الشارع، وهم أدركوا أن المرحلة تتطلب رئيسا إسلاميا يدين لفكر الجماعة أكثر من انتمائه لحزبه السياسي أو لمنطق الدولة، وهذا ما لا يمكن لأبو الفتوح المتحرر في نظرهم القيام به، كما أن أبو إسماعيل تدور حوله شائعات حول عدم أحقيته في التقدم بسبب «جنسية الأم»، والأكثر دقة أن الجماعة ضمنت أرضية سياسية لا يمكن أن تنازع عليها، حيث البرلمان والدستور، فلا أقل من أن تلعب بكرت الرئاسة على طريقة الأحزاب الوطنية التي تأكل كل شيء بإذن الديمقراطية.
إذا كنا ننازع الجماعة في طرحها للشعار الملتبس والمفخخ «الإسلام هو الحل»؛ فإن من المؤكد رغم كل الأحقية السياسية للعب الإخوان الخطر أنهم الأزمة القادمة، فمن خانوا رفاق الأمس من الذين قاسموهم السجن لن يترددوا في الاستئثار بالسلطة على حساب رفاق الثورة الحائرين.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com