ÇáÃÞÈÇØ ãÊÍÏæä
طباعة الصفحة

سراب "الثورة" و"الحقوق"

| 2012-03-26 12:22:21

 قبل عام فقط كانت شعارات الثورة الوردية تملأ سماء الساحات والميادين فيما عرف حينها بدول "الربيع العربي"، وفي تلك الدول وخارجها وعلى امتداد العالم العربي حلّقت مع تلك الشعارات وبها ولها عقول وأحلام، وأمان وإعلام، وخرجت من رحم الثورة مفاهيم كبار كانت تصدح بها الحناجر وتصرخ بها الآمال، كالديمقراطية والحرية والحقوق، وسار التاريخ ومضت ركائبه وها نحن ولمّا ينقضي غير عامٍ طار فيه دخان الثورة وانقشع ضباب الحقوق وتجلت القصة عن واقع صدم الحالمين.

 
الواقع اليوم يقول بأنّ ما سُمّي بـ"الربيع العربي" صبّ كل خزائنه في سلال التيارات الإسلامية ومنحها كل ثماره ومحضها عصارة نتائجه، تلك التيارات التي تشهد ارتباكاً تجاه ما يجب أن تصنعه للتعامل مع الواقع الجديد، فبعد أن كانت على هامش القرار السياسي عقوداً أصبحت على قمة هرمه وهو ما يفرض عليها تغييراً شاملاً لتوجهاتها وخطابها ومفاهيمها ولكنّها كما يبدو -حتى الآن على الأقل- قررت الاكتفاء بالانتماء للمفاهيم الحديثة والشعارات الجديدة عبر التصريحات والتسميات فحسب، فـ "الديمقراطية" تجري كثيراً على ألسنة "الإسلام السياسي" ولكنّ القلوب راكنة إلى "التمكين"، و"الحرية" و"الكرامة" تملأ الشعارات غير أنّ القلوب مطمئنة لـ "الحاكمية"، وشعار "الحقوق" بات مجرد خلفية باهتة لشعار حركي أقدم هو "حكم الشريعة".
 
بعبارة أخرى، فإن خطاب جماعات الإسلام السياسي وتياراته لم يزل يركن في عمقه للخطاب القديم بمفاهيمه وآلياته وإنْ تزيّن في الظاهر بشعارات القيم العولمية الحديثة ومفاهيمها وآلياتها، ومن هنا تأتي الصدمات واحدة تلو الأخرى لبقية أطياف المشهد السياسي والثقافي العربي خاصة أولئك الذين ركضوا خلف سراب الثورة والحقوق يحسبونهما ماء، فلمّا وصلوهما وجدوهما سراباً نفثت فيه جماعات الإسلام السياسي كل تعاويذها وشعوذاتها.
 
معركة الدستور في مصر معركة كاشفة لهذه الصدمة وهذا الاكتشاف الذي كسر الآمال الحالمة لكل من لا ينتمون لتيارات الإسلام السياسي، وهي معركةٌ بدأت بالاستفتاء على التعديلات الدستورية التي قامت بها لجنة كانت غالبيتها من "الإخوان المسلمين" والمتعاطفين معهم وتمّ تمرير نتائج الاستفتاء على الرغم من احتجاجات بعض القوى السياسية والثقافية والطائفية الأخرى، المصدومة حالياً، ثمّ جاءت صناديق الاقتراع بأغلبية كاسحة من تيارات الإسلام السياسي للبرلمان، ثم وصل الأمر أخيراً للصراع حول الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور الجديد لمصر حيث تراجع الإسلامويون عن وعودهم المعسولة السابقة بعدما امتلأوا نشوةً بقوّتهم الحادثة ونفوذهم الجديد فقرّروا المشاركة بخمسين في المائة منهم عبر البرلمان وخمسين في المائة يختارونهم هم من خارجه. وخرجت القوى الأخرى صفر اليدين من كامل المشهد السياسي بمصر.
 
تحت هيمنة شبه مطلقة للتيارات الإسلاموية تبدو جميع التيارات الأخرى مستضعفة قليلة الحيلة أمام تغييرات لن تؤثر على واقع مصر اليوم بل على مستقبلها المنظور بأكمله، فالأقباط مهمّشون والمرأة مثلهم، والقوى السياسية والثقافية والاجتماعية المدنية بأحزابها القديمة وتكتلاتها الثوروية الحديثة لا حول لها ولا قوّة، ويمكن هنا متابعة الأنين السياسي الذي تبثّه صحافة وإعلام ومواقع تلك التيارات.
 
من جهة أخرى وفي ذات السياق يمكن رصد ظاهرة أخرى هي تلك التي برزت في دول الخليج العربي حيث زاد النشاط وكثر الناشطون فمنهم حسبما نتابع ناشطٌ اجتماعيٌ وناشطٌ سياسيٌ وناشطٌ حقوقيٌ، وعند إمعان النظر فإنّ الناشط الاجتماعي لا معنى له بل هو من باب اللغو لأنّه يمكن أن يكون تعريفاً للإنسان بشكل عامٍ، أما الناشط السياسي فمعروف وقديم وينطبق على أشخاصٍ من فئاتٍ متعددةٍ بعضهم في السلطة وبعضهم في المعارضة وبعضهم مهتمّون بالسياسة كباحثين أو محللين أو كتّاب ونحو هؤلاء، ولكنّ "الناشط الحقوقي" كان تعبيراً جديداً على المشهد وذلك لسعة انتشاره وحجم التناقضات الكبرى بين ممثليه والمندرجين تحته كتصنيف جديد.
 
إنّ "الناشط الحقوقي" ليس من شرطه أن يكون قد درس القانون، وليس من متطلباته أن يكون متخرجاً من كلية للحقوق، فليس ضرورياً بالتالي أن يكون قاضياً أو محامياً أو متخصصاً بأي نوعٍ من أنواع الحقوق، بل الأهمّ –كما هو الواقع- أن يكون مهتماً بالقضايا التي تهمّ الشأن العام داخلياً وخارجياً، غير أنّ من شرطه الدقيق أن يكون موقفه فيه شيء من المناكفة لموقف السلطة بغض النظر عن أي أبعادٍ أخرى كالأبعاد السياسية والتاريخية والاجتماعية وغيرها، وكثير من هؤلاء الناشطين ينظرون للسياسة من ثقب الحقوق وينظرون للأمن والإعلام والتعليم ولكل قضية من ذات الثقب، ويعمى كثير منهم أو يتعامى عن كل هذه الأبعاد مهما بلغت أهميتها وخطورتها ليبقي شعاره مرفوعاً "الحقوق" قبل وبعد كل شيء، أماّ عن أية حقوق يتحدّث فذلك سؤال لا ينبغي أن يطرح وإن طرح فالحل هو تجاهله.
 
من أكثر القضايا إثارة أن يصل الأمر بالبعض من هولاء الناشطين الحقوقيين الجدد للدفاع عن عناصر "القاعدة" والمتورّطين في قضايا إرهابية لا بمعنى أن يحظوا بمحاكمة عادلة بل بمعنى غض الطرف عن جرائمهم ومخططاتهم الدموية سابقاً تحت دعوى أنّهم سجناء رأي، ويتناسون هنا حقوق المواطنين عامةً في معاقبة من أرهبهم وأقلق أمنهم وراحتهم، ويتجاهلون حقّ الدولة في فرض الأمن وبسط الاستقرار، ويغفلون عن حقوق خاصة ببعض المواطنين وبعض رجال الأمن وأهاليهم الذين تضرروا ضرراً خاصاً ومباشراً وبليغاً جرّاء إرهاب "القاعدة".
 
لقد كان ينخرط تحت شعار "الحقوق" وتعبير "الناشط الحقوقي" شرائح مختلفة حدّ التناقض أحياناً فمنهم السلفي ومنهم الإخواني ومنهم التنويري الإسلامي ومنهم المنتمي لبعض الأقليّات من مثقفين وغيرهم ومنهم الليبرالي أو القومي أو اليساري وغيرها من التصنيفات، وقد كان شعار الحقوق فضفاضاً حقاً لدرجة مكّنته من أن تنضوي تحت لوائه كل هذه التيارات.
 
في مثل هذا السيلان للمعنى، لمعنى "الناشط الحقوقي" أو لمعنى "الحقوق" نفسها كان لابد أن تأتي لحظة ما ينفرط فيها العقد وتتناثر خرزات سبحته لتعود كل واحدة منها للتوجه الأصلي والقناعة الأصيلة، ومن هنا لم تتأخر تلك اللحظة الكاشفة لمثل هذا الشعار فظهرت عند الإعلان عن "ملتقى النهضة" في دورته الثالثة التي عقدت في الكويت وأثارت ولم تزل كثيراً من اللغط والجدل.
 
إنّ المتابع لهذا الجدل على اتساع دائرته وحدّة تجاذباته يستطيع أن يكتشف بسهولةٍ أن "الحقوق" لم تكن إلا شعاراً عاماً لا يحمل معنى محدداً ومفهوماً منضبطاً ولهذا فعند أول مفترق طرقٍ وأوّل اختلافٍ اصطدم الرفقاء ببعضهم وتبادلوا الاتهامات والتحذيرات، وتجلّى المشهد على أنّ أصبح لكل ناشط حقوقه التي يغنّي عليها وإن كانت على النقيض مع ناشط آخر يغنّي على حقوقٍ أخرى، وكلٌ يغنّي على ليلاه.
 
أخيراً، لا يمكن لشعاراتٍ فضفاضةٍ من حيث الاستخدام في الواقع كـ"الثورة" و"الحقوق" أن تجمع تحت جناحها فئاتٍ متناقضةٍ إلا إذا كانت مجرد سرابٍ يتخيّله كل طرفٍ ماءً خاصاً به حتى إذا وصل الجميع إليه انفض السامر وتفرّق الركب.
نقلاً عن إيلاف
 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع

جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com