بقلم: منير بشاى
بداية يتحتم على أن أؤكد اننى أتفهم جيدا مشاعر من ينادوا بتقسيم مصر وان كنت لا أتفق معهم في الرأى. فمع الاعتداءات الارهابية التى تستهدف الاقباط والتى تصاعدت بشكل مخيف فى العقود الأخيرة فقد بعض الأقباط الايمان بامكانية التعايش المشترك بين المسلمين والأقباط فى مصر ووصلوا الى الاقتناع ان الفصل بينهما هو الحل الوحيد الذى تبقى. ولكن هل تقسيم مصر هو حل عملى قابل للتنفيذ للمشكلة القبطية؟
عندما اندلعت الحرب بين العرب واسرائيل حول فلسطين نتج عن ذلك ما يعرف بمشكلة اللاجئين وهم فلسطينيون اضطرتهم الحرب الى ترك ديارهم ليعيشوا فى مخيمات خارج أرضهم. ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم اصبحت مشكلة اللاجئين تحتل مكان الصدارة فى اى مفاوضات لتسوية القضية الفلسطينية. وأصبح عودة اللاجئين الى ديارهم مطلبا أساسيا، لا يقبل الفلسطينيون التنازل عنه، حتى بعد مرور ما يزيد عن ستة عقود. بعض هؤلاء الفلسطينيين كانوا أطفالا عندما تركوا وطنهم والآن وهم شيوخ ما يزالوا يحلمون بالعودة الى الوطن.
عندما تأججت مشكلة الزنوج فى أمريكا اقترح بعض البيض وضع الزنوج فى ولاية خاصة بهم والتخلص من المشكلة. ولكن من اعترض على هذا كان الزنوج أنفسهم. والسبب انهم لم يقبلوا ان يعاملوا على أنهم طائفة منفصلة عن الشعب الأمريكى تعيش فى جيتو خاص بهم. وأعلنوا أنهم أمريكيون ولا يقبلوا بغير العيش فى كل امريكا والمعاملة بالمساواة مع بقية الشعب الأمريكى. وثابروا الى أن وصل واحد منهم الى منصب رئاسة أمريكا كلها.
وعندما قرر متشددون فى قرية العامرية بالاسكندرية تهجير عائلات قبطية من القرية اعتبرها الأقباط ومعهم الكثيرون من المسلمين الشرفاء مأساة وخرق لكل مبادىء حقوق الانسان. وقامت الدنيا ولم تقعد الى أن أخذ هؤلاء حقهم ورجعوا الى ديارهم وبين جيرانهم.
تقسيم مصر وتكوين دولة قبطية فى جزء منها فكرة ترددت مع زيادة الاضطهاد ولكن موقف الكنيسة والشعب القبطى كان دائما رفضها فيقال أنه عرضت على الأنبا كيرلس السادس فى احدى زياراته للحبشة مشروع تهجير الاقباط الى الحبشة فرفض حتى مجرد أن يناقشه وقال "رجعونى لبلدى". وزعم الرئيس السادات ان البابا شنودة يخطط لاقامة دولة قبطية فى أسيوط فرد عليه البابا بطريقته الفكاهية الساخرة المعهودة "طب نعمل ايه فى كل الأساقفة اللى عندنا؟ نحط أسقف على كل حارة ونسميهم الآباء الحواريين؟"
فكيف يأتينا اليوم من يعيد اثارة هذا الموضوع؟ وكيف يقبل الأقباط أن يعاملوا بمعاملة رفضها الفلسطينيون وزنوج أمريكا، بل ولم نقبلها نحن على اقباط العامرية؟
ناهيك انها فكرة هلامية غير قابلة للتنفيذ. فالأقباط والمسلمون يعيشون معا فى كل مدينة وكل قرية، فى كل شارع وكل عمارة. يعملون معا فى نفس مؤسسات الدولة ونفس الشركات الخاصة. محلاتهم التجارية تختلط معا فى كل مكان، كنائس المسيحيون وأديرتهم منتشرة فى كل ربوع مصر. كيف يمكن اقتلاع المسيحيين من أماكن تواجدهم فى مصر؟ وهل يضحى المسيحيون بكل ما يمثل كل حياتهم وعقيدتهم وذكريات تاريخهم الطويل، والارض التى دفن فيها آباءهم وأجدادهم والتى ارتوت بدماء شهدائهم- ليعيشوا فى مكان معزول لا يحمل من سمات مصر الا القليل؟ هل نبحث عن حل لمشكلة فى حياتنا بالتضحية بكل حياتنا؟ هل نقبل ان نتعاطى دواء اكثر فتكا من الداء؟ هل نكون كالمستجير من النار بالرمداء؟
عندما بدأ البعض الكلام عن هذه الدولة كنا نعاملها مثل فكاهة نتندر بها، ولكن فوجئنا بمن صدقوها وتوهموا ان هناك (فعلا) دولة قبطية ورئيس قبطى ومجلس قبطى وقنصليات قبطية. ثم تطور الأمر الى الاعلان عن أشياء غريبة مثل مناقصة لحفر قناة قبطية موازية لقناة السويس من ايلات الى العريش! وهذا تعدى فى نظرى كل حدود الخيال. ولذلك أقول لمن فكر فى هذا المشروع وغيره انه اذا أردت أن يعاملك الناس بجدية عليك ان تحرص ان تكون شطحاتك معقولة! وإلا قد يأتيك بعد سنوات من يسألك عن آخر أخبار الحفر فى تلك القناة القبطية؟! وعليك ان تفكر منذ الآن كيف سترد عليه..
اين فى مصر يمكن تحقيق هذه الدولة القبطية المزعومة؟ أين يوجد ذلك الوطن الذى تتوافر فيه أولا وقبل كل شىء حدودا طبيعية آمنة؟ هل شبه جزيرة سيناء تمثل هذا المكان المثالى لدولة الأقباط؟ وهل يترك الأقباط أعمالهم وبيوتهم وكنائسهم وأديرتهم ليعيشوا فى الصحراء؟ هل هذا المكان يحمل مقومات الدولة؟ اين الاقتصاد الذى تقوم عليه تلك الدولة؟ أين البنية التحتية؟ أين المرافق العامة؟ أين الخدمات الحيوية مثل الماء والكهرباء والتليفونات؟ أين المدارس والجامعات والمستشفيات؟ أين قوات الجيش والبوليس؟ أين البيوت التى سيسكنوها؟ وأين الوظائف التى سيعملون فيها؟ أين المصانع التى ستنتج احتياجاتهم؟ أين الأرض الزراعية التى ستنمى ما يأكلون؟ ُواين كنائسهم التى سيصلون فيها؟
قد يقول قائل ان تحقيق وطن آمن للاقباط يستحق أن نقدم من أجله كل هذه التضحيات. وهنا يجب ان نطرح هذا السؤال: هل سيحقق هذا الوطن المزعوم الأمان الذى ينشده الاقباط؟
أتذكر حادثة ارهابية تمت فى قرية بمحافظة أسيوط اسمها "عزبة الاقباط". ومن اسمها هى قرية كل سكانها من المسيحيين. فى 24 فبراير 1996 دخلها ارهابيون بغرض ان يقتلوا أكبر عدد من المسيحيين. وكانت مهمة الارهابيين فى منتهى السهولة فلم يكونوا محتاجين لتحقيق الهدف حتى ان يجيدوا مهارة التنشين، كل ما عملوه هو الضغط على الزناد وتوجيه مدافعهم فى كل اتجاه بطريقة عشوائية الى أن فرغت المدافع من الطلقات.
الذين يريدون تقسيم مصر واقامة وطن خاص بالاقباط فى جزء منها يريدون ان يعيش اقباط مصر فى "عزبة أقباط" كبيرة. مكان يسهل لأى ارهابى ان يتسلل اليه ليقتلهم ويرهبهم. بل ومن يريد ان يلقى عليهم بصاروخ من الخارج لن يخطىء الهدف، حتى وان كان فاقد البصر.
الخلاصة ان مصر لن تكون مصر اذا تم تفريغها من الأقباط الذين هم أصل مصر. والدولة القبطية لا تستطيع أن تدعى انها قبطية إن لم تشتمل على كل أرض مصر التاريخية. فلا وجود لمصر بغير أقباطها ولا وجود للأقباط بغير مصرهم. هذا فضلا عن ان مشكلة الطائفية لا تحل بعزل اللأقباط عن المسلمين فالغالبية العظمى من الطرفين قادرون على التعايش المشترك دون مشكلة. التحدى الحقيقى أمام المسئولين ليس كيف يعزلوا عنصري الامة عن بعضهما ولكن كيف يعزلوا فكر الارهاب عن عقول بعض النفوس المريضة.. وكيف يبثوا فى الناس حقيقة أن الله محبة.
Mounir.bishay@sbcglobal.net
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com