على قلب رجل واحد شارك المصريون 'مسلمون ومسيحيون' فى مراسم تشييع ودفن البابا شنودة الثالث الذى استحق عن جدارة لقب 'بابا مصر والعرب' بقدر ما سيبقى حيا فى وجدان الملايين رمزا مضيئا للوطنية المصرية الجامعة والثوابت القومية الأصيلة.
وكانت مراسم تشييع ودفن البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية - الذى توفى يوم السبت الماضى - قد بدأت اليوم الثلاثاء وسط حشود شعبية غفيرة، فيما أعلن المشير محمد حسين طنطاوى رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة حالة الحداد العام بمصر.
وبناء على وصية البابا تقرر دفن الجثمان فى دير الأنبا بيشوى بوادى النطرون، فيما نكست جامعة الدول العربية علمها مساء أمس حدادا على بابا العرب وصاحب المواقف القومية المشهودة الذى توفي عن عمر يناهز ال 89 عاما.
وللبابا شنودة أن ينعم بالراحة الأبدية فيما تشهد مصر اتفاقا عاما يكاد يشمل كل أطيافها على أهمية السعى لبناء الدولة الديمقراطية الحديثة القائمة على أسس المواطنة وسيادة القانون وقيم الحرية والمساواة والعدالة والتعددية واحترام حقوق الإنسان بلا أى تمييز على أساس العرق أو اللون أو الدين والتداول السلمى للسلطة عبر صناديق الانتخابات وصياغة دستور جديد يلبى متطلبات كل المصريين وصولا للنهضة المنشودة.
وكان البابا شنودة الثالث قد اعتلى الكرسى الباباوى يوم 14 نوفمبر عام 1971 بخلفية ثقافية رفيعة، حيث انتمى بشخصيته الكاريزمية لذلك الجيل الأول من الرهبان الجامعيين من أصحاب التخصصات العلمية المختلفة ليقود الكنيسة الوطنية المصرية على مدى 41 عاما ويصبح علامة فارقة فى تاريخ البطاركة العظام.
ورغم وفاة البابا التى شكلت حدثا جلل للكنيسة المصرية، إلا أن الكنيسة قادرة بكل تراثها وتاريخها الثرى ووطنيتها فى ظل البطريرك الجديد الذى سيكون البطريرك ال118 على مواصلة دورها كمؤسسة وطنية بالدرجة الأولى، وحافظة لشخصية مصر وخلود رسالتها الحضارية للعالم قاطبة.
وحسب إعلان المجمع المقدس فإن أسقف البحيرة باخوميوس يتولى منصب قائم مقام البابا حتى انتخاب البابا الجديد، ومن بين الأسماء المرشحة الأنبا موسى أسقف الشباب، والأنبا يؤنس سكرتير البابا الراحل، والأنبا بيشوى السكرتير العام للمجمع المقدس، والأنبا مرقس أسقف شبرا الخيمة.
وكان الأمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف قد أشاد بالمواقف الوطنية المشهودة للبابا شنودة، مؤكدا أن مصر فقدت أحد كبار رجالاتها المرموقين، فيما بكت الصحافة المصرية أحد أبنائها من أصحاب الأقلام اللامعة القادرين على التعبير عن مكنون الوجدان المصرى.
وفى منطقة 'شبرا مصر' شمال القاهرة الذى جسد ومازال معنى المصرية الجامعة بين كل المصريين مسلمين ومسيحيين، حيث عاش فيه البابا الراحل بعض سنوات عمره، يقول محمد عبدالعظيم الذى درس بالأزهر الشريف 'لن نقول وداعا للبابا شنودة.. وإنما نقول له مثالك لا يموت ما بقت مصر التى عاشت فيك'.
وبدوره، أكد جاره وجيه ميخائيل وهو يبكي أن البابا شنودة سيبقى دائما فى ضمير مصر يلهم كل المصريين قيم المحبة والوطنية والتسامح، كما قالت نادية عدلى 'إن البابا شنودة كان حبيب الملايين من المسيحيين والمسلمين معا'.
وتحول البابا شنودة الثالث - دارس التاريخ والضابط لسنوات بالجيش الوطنى المصرى - إلى مدرسة للوطنية المصرية الخالصة والرافضة بقوة وحسم لأى تدخلات أجنبية فى الشأن المصرى الجامع للمصريين مسيحيين ومسلمين، وهو الذى تولت سيدات مسلمات فى قرية السلام بمحافظة أسيوط رضاعته عندما توفيت والدته لتتركه رضيعا يتيما ليكون بعد ذلك الأب الحنون لكل المصريين.
وتعبر الحياة المديدة للبابا شنودة عن حقيقة أساسية وهى أن الأقباط المسيحيين مكون أساسى من مكونات البنية المجتمعية المصرية، وأنه لا يمكن تصور مصر دونهم، وأن التاريخ رغم احتشاده بالمكائد والمخططات والتدخلات الخارجية فإنه حافل أيضا بالقامات الوطنية الشامخة.
وبقدر ما تؤكد الحقائق التاريخية أن المسيحية العربية قدمت للأمة كوكبة مضيئة من المناضلين على مستوى الفكر القومى وحركة المقاومة ضد المشاريع الإستعمارية والتقسيمية، بقدر ما تشهد على أن البابا شنودة الثالث كان مناهضا للغلو الطائفى والاستقواء بالخارج والمحاولات الآثمة لضرب مفاهيم الهوية الوطنية بأيدى الطائفية.
ومن هذا المنطلق نجد أن الدولة الديمقراطية هى القادرة على حماية الهوية بقدر ما هى قادرة على إعلاء مفهوم المواطنة الذى يوحد على نحو خلاق بين قيم العدل والحرية والمساواة، كما يسمح للجميع بالإسهام فى بناء المستقبل باعتبارهم مواطنين كاملى الحقوق والواجبات.
والبابا شأنه شأن القامات الشوامخ لا يجوز التعامل مع تاريخه ومسيرته بتفكير اختزالى أو رؤية أحادية تخل بالحقائق فى الواقع المتعدد الأبعاد والجوانب، ومما لا جدال فيه أن البابا شنودة سيدخل تاريخ مصر والأمة كأحد علاماتها المضيئة على مدى نحو نصف قرن من الزمان، وعلى هذا يحق له أن يتبوأ المكانة العالية الرفيعة فى تاريخ بطاركة الكنيسة الوطنية المصرية.
وبأى كلمات نتحدث عنك يا صاحب الكلمة وصاحب المقولة الخالدة 'مصر ليست وطنا نعيش فيه بل وطنا يعيش فينا؟.. بأى كلمات ننعيك يا معلم الأجيال وأنت أحد العشاق الكبار لمصر وأحد أصحاب القامات الشوامخ الذين أنجبتهم أرض الكنانة.. عالى الجناب، شديد التواضع، شديد الكبرياء، المحب للفقراء وملح الأرض ورائحة مصر.
سلام على ابن قرية سلام.. سلام على ابن الأرض المصرية الطيبة.. الشاعر الناسك العاشق لمصر وحارس الثوابت القومية ورجل المواقف الصلبة فى قضية القدس وفلسطين.. فلن نقول لك وداعا.. فمثلك لا يموت ما بقي الوطن الذى عاش فيك.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com