فى عظة الأربعاء كان البابا متأثرا بشخصية عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين ولهذا لم يكن لقاء دينيا عابرا ، وإنما كانت أشبه بصالون دينى وثقافى واجتماعى بشرط البعد عن السياسة ..
وعلى مدار 40 سنة حرص البابا على هذا اللقاء الذى كان ما يدور به يمثل عناوين عريضة تلخص علاقة الأقباط بالدولة .. ولهذا كان أول إجراء يقوم به السادات بعد توتر علاقته بالبابا أن أصدر قرارا بوقف العظة ومنع البابا من لقاء الأقباط وذلك بعد رفض البابا شنودة إتفاقية السلام كما تحدى قرار السادات ورفض زيارة القدس ووصل الصدام إلى حد اتهام السادات له بتأجيج أقباط المهجر عليه ومارس السادات سياسة العداء وقرر تعطيل مناقشة قانون بناء دور العبادة الموحد كما كان قراره بإطلاق العنان للجماعات الإسلامية مثار غضب البابا .. ولأول مرة يتحدث البابا فى هذا العهد عن اضطهاد الأقباط وتمر الأيام وتأتى هوجة اعتقالات سبتمبر ويقرر السادات تحديد إقامة البابا فى دير بوادى النطرون فكان الصدام والتوتر طاغيا على علاقة الرجلين ..
لكن الرئيس السابق مبارك تعلم من سابقه وقرر منذ البداية عدم الصدام مع البابا ، وواصل البابا نشاطه الدينى بحرية مقيدة ، فقد كان أمن الدولة يسكن الكاتدرائية وكان له دور كبير فى إخماد غضب الشباب القبطى فى الأيام الأخيرة من عهد مبارك.. كان مفروضا على البابا ان يعيش معزولا لا يملك حق التعليق وهو ما يفسر سر غضب الشباب القطى عليه فى الفترات الأخيرة من حياته .. وبإمكاننا أن نرصد ملاحظات خطيرة تؤكد أن علاقة البابا بنظام مبارك كانت فى غاية التوتر فى الأيام الأخيرة وقد بدا ذلك واضحا فى لقاء الأربعاء وأحاديث الأقباط الجانبية وإشارات البابا الطفيفة ..
كانت حادثة تفجير كنيسة القديسين نقطة تحول مهمة فى علاقة البابا شنودة بنظام مبارك البائد .. فقد أجل البابا العظة التى تلت الحادثة وجاء موعد إقامة قداس عيد الميلاد الجديد ليلة يوم 7 يناير . كان رموز النظام قد حرصوا على حضور القداس لتقديم العزاء للبابا شنودة وكان السيد علاء مبارك فى مقدمة الحاضرين وقد جاء مبكرا ساعة عن الموعد ودخل فى بساطة دون ضجيج هو وزجته هايدى راسخ وبعد أن دخل البابا الكاتدرائية دخل جمال مبارك وسط عدد من الحرس الخاص متأخرا وفى زهو واستعلاء مما أثار استياء البابا شنودة والذى أبدى عدم اهتمام بما شاهده وألقى البابا خطبة عيد الميلاد داعيا الله أن يرحم الشهداء ويبث السلام فى مصر .. أثار استياء البابا أيضا قبل ذلك تعيين جمال أسعد فى مجلس الشورى وهو مفكر قبطى يسارى مناوىء لمواقف الكنيسة لدرجة أن البابا اعتقد أن مبارك سعى بذلك لتوجيه طعنة فى ظهره أيضا كان غضب البابا شديدا على حادث كنيسة العمرانية واعتقال عدد من الشباب الأقباط المشتركين فى الحادث وطالب بتدخل مبارك للإفراج عن هؤلاء الشباب قبل العيد وإلا ستكون العواقب وخيمة مما اضطر مبارك لأن يتدخل شخصيا ويكلف حبيب العادلى بالافراج عن الشباب .. وبعد الثورة حرص البابا شنودة على ملازمة الصمت وقال فى إحدى عظاته أن ما تشهده مصر من قلق واضطراب أدى لشيوع التظاهر والاحتجاج داعيا للسلمية ثم رحل مبارك وأيد البابا الثورة ..
كانت المواقف عصيبة للغاية وكان أمن الدولة قبل حله يتدخل فى شئون الكنيسة بشكل ملحوظ .. كان ضباط ومخبرو أمن الدولة يجلسون فى المقاعد الأمامية والخلفية فى عظة الأربعاء ليقفون على تطورات المواقف واتجاهات الأقباط نحو الشئون العامة وحدث أكثر من مرة أن قامت مباحث أمن الدولة بالقبض على النشطاء الذين يثورون فى الكاتدرائية ومع ذلك كان البابا صامتا يتحلى بضبط النفس فى كل المواقف مما أثار غضب الأجيال الشابة منه لكن هذا الغضب لم يكن يحمل فى طياته أى تراجع فى الشعور بقداسة البابا الراحل .. وعندما كان يثور الشباب فى عظة الأربعاء يصمت قليلا وبعد أن تهدأ الهتافات يواصل كلماته دون تعقيب أو تعليق ..
بعد الثورة تكررت حوادث الفتنة الطائفية فى مصر وكان من أبرزها حادثين أثرا بشكل عميق فى نفس البابا وفى جلسات الكاتدرائية ومختلف الكنائس .. كان الحادث الأول هدم وإحراق كنيسة صول وقد التزم البابا سياسة الصمت فترة وامتنع عن إقامة العظة مرة ولكنه عاد مرة أخرى غاضبا .. وكانت ملامح الغضب تبدو واضحة فى نظراته وكلماته وتعبيراته فكان يتوقف عن السخرية والدعابة وإلقاء النكت وكان يبدو جادا حادا كتعبير عن شعوره بالضيق لكنه لم رغم جسامة الأحداث كان يتوقف عن التعليق ثم جاءت أحداث كنيسة الماريناب والتى قادت الأقباط إلى مذبحة ماسبيرو والتى تعد بلا أدنى شك نقطة تحول فى كل ما آمن به البابا شنودة من نظريات فلسفية وقيم سامية فقد أدرك أن للبشر وللسلطة أيضا قوانين وتقديرات أخرى غير خارج دائرة الحكمة .. شيء ما قد تغير فى شخصيته لم يعد البابا كما كان وبات يشعر بالقلق الكامل على مصر وهو نفس شعور الأقباط الذين قالوا له فى إحدى المرات " إحنا خايفين يا سيدنا"! .. هذه الأحداث تركت صداها فى قداس عيد الميلاد الأخير حينما ألقى البابا عظته متجاهلا المجلس العسكرى بل أنه وجه الشكر فى بداية العظة للإخوان المسلمين ورموز التيارات الإسلامية التى حرصت على الحضور وفى نهاية العظة خص بالذكر قادة المجلس العسكرى من الحاضرين وهو ما تسبب فى حالة هياج دوت بالكاتدرائية لكن البابا لم يلتفت وواصل حديثه .. فى القداس الأخير كان كل شىء قد تغير رموز السلطة هذه المرة أصبحوا مختلفين تماما عن رموز السلطة فى القداس الماضى .. ربما شعر البابا أن كل شىء قد تغير ولهذا ألقى خطابا مؤثرا لكنه رغم ذلك فقد بدا متفاءلا وزرفت دموعه حينما قال " مصر بلادنا العزيزة المحبوبة إلى أين ؟ قطعا إلى الخير والبركة وليس هذا نوعا من التفاؤل ولكن بإيمان عميق بتدخل الله فى الأمور لكى يسيرها فى الطريق السليم .. فالله يحب مصر ويحب المصريين ويبغى لهم الخير والسلام والمحبة ولهذا فإنه بإيماننا بتدخل الله فإن كل الأمور سوف تؤول إلى الخير والبركة بمشيئة الله ".
لكن البابا رغم جسامة الأحداث فى الفترات الأخيرة كان يلجأ أحيانا إلى الدعابة والسخرية فمن المواقف الطريفة التى لا تنسى أنه فى إحدى العظات شعر البابا مبكرا بالتعب فلم يحضر وتم تأجيل العظة لكن مواطنا قبطيا دخل الكاتدرائية وجلس بمفرده فى الصف الأول فلم يجد أحدا فتقدم وجلس على كرسى البابا فترة ثم انصرف وفى العظة التالية أرسل رسالة للبابا حكى له فيها ما حدث فضحك البابا بشدة وقال له نصا " مش حرام إنك تقعد على الكرسى بتاعى بس هو واسع عليك .. يا إبنى فيه ناس كتير قوى من اللى قاعدين حواليا هايموتوا على الكرسى ده" وهنا ضجت الكاتدرائية بالتصفيق .
كان الهتاف المتكرر فى كل عظة هو "بنحبك يا بابا .. بنحبك يا سيدنا " .. وكان البابا يتحدث إلى الأقباط مطلقا عليهم لقب الشعب .. كان يقول أيها الشعب أحيانا ، كما كان يتعامل مع الأخوة الأقباط بشكل إنسانى خالص فيبحث رسائلهم بنفسه ويرد عليها ومن يحتاج مساعدة يقوم بتوجيهه إلى الأساقفة المختصين ومن يحتاج لعملية جراحية كان ينفق من مال الكاتدرائية عليه ومن يشعر بضيق نفسى يعالجه .. لهذا كان حكيما.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com