«حركة ضد السلطة التي تعترض الرغبة» هكذا اخترت أن أضع تعريفا لـ «الثورة» قبل أن أقدم مداخلة بعنوان «تفاعلات الثورة في مصر: تحولات أدوار التيارات الإسلامية وخصومها» في مؤتمر «الإسلامي السياسي في الحكم ودور جديد للمعارضة» الذي انعقد يومي الأحد والإثنين الماضيين في تونس.
بدلا من الحديث عن حقيقة المشاركة في الثورة من قبل الإسلاميين، الإخوان أم السلفيين، القيادات أم الشباب، وكأن الثورة انتهت والعياذ بالله، اقترحت أن نحاول معرفة مَن مِن الأطراف ينتمي أو يقترب من «السلطة» – بمعناها الواسع - ويحاول كبح جماح «الرغبات» المختلفة، ومن لا يزال في ساحة الثورة يحاول أن يتحرك برغبة حقيقية أصيلة تجاه ما يتمناه ويحلم به بلا مساومات أو حلول وسط.
عندما أحاول ذلك يبدو لي أن الإخوان المسلمين أحيانا يتحركون من منطلق قوة تتحرك برغبة في التغيير، لكنهم أحيانا أخرى يتحركون من منطلق شعورهم بأنهم في موقع الإدارة والسلطة فيحاولون كبح الرغبات المختلفة المنطلقة من حولهم، رغبة التيارات الأكثر ثورية في التغيير الجذري والصدام مع كل النفايات الباقية من النظام القديم، ورغبة بعض قواعدهم وشبابهم «الأكثر ثورية» في المزيد من حرية الحركة والتفاعل مع الشارع، ورغبة السلفيين والكثير من القواعد الإخوانية المحافظة في التقدم أكثر وبشكل أكثر وضوحا نحو التمكين لـ «المشروع الإسلامي».
الرغبة السلفية الجامحة وربما المراهقة في التحرك وفرض مشروعهم يبدو لي تحركا ثوريا. التصرفات الفردية والتصريحات الفردية تعبر عن الرغبة السلفية وطموحها، بينما محاولة القيادات السلفية الجديدة التي تتعلم «اللعب السياسي» لضبط النفس، وضبط الرفاق وتشكيل «موقف رسمي» مقبول ومعتدل، هو محاولة التواؤم مع سلطة «المقبول والمتاح الآن» التي يلعب وقفها زملاؤهم المخضرمون في الإخوان المسلمين.
في تونس قبل أيام، الرغبة السلفية المنطلقة أنزلت العلم التونسي المرفوع في كلية الآداب بمنوبة، احتجاجا على استمرار منع الطالبات المنقبات من دخول قاعات الدرس بالنقاب، واستبداله بعلم أسود مكتوب عليه: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
هناك حالة من الغضب العارم والتنديد الشديد بما حدث في الصحف، القريبة معظمها من التيارات الليبرالية واليسارية، لاحظت أثناء حوار مع صديقة تونسية أن الإسلاميين يطلقون على كل خصومهم في مصر «ليبراليين» بمن فيهم اليساريين، بينما يحب إسلاميو تونس إطلاق مسمى «اليسار» على كل خصومهم بمن فيهم الليبراليين، يبدو أن الكل يحب وضع خصومه في سلة واحدة، وربما كان مصطلح «الإسلاميون» أو «الإسلام السياسي» ينتمي لفكرة السلة المعادية الواحدة.
ويبدو أن الرغبة الثورية الجامحة في الانحياز لـ«سلة» ضد «سلة» تنسي أحيانا رغبة ثورية أخرى في الانحياز لسلة من الأفكار التي تحاول أن تجعل الحريات مساحة مفتوحة لحركتنا جميعا شريطة ألا تكون هذه الحركة محاولة لفرض سلطة أو تقليص الحريات نفسها، أدعي أنني اندهشت عندما لم أجد أحدا متعاطفا مع رغبة الطالبة السلفية في الدخول لقاعة الدرس بنقابها، وهو ما أراه حرية لها وأراه أهم من كل الأعلام والرايات.
الخطاب المندد بما فعله السلفيون يقول إن تلك فقط مقدمة لسلسلة من المطالبات الإسلامية السلفية منها مثلا منع الاختلاط في قاعات المحاضرات، ربما كان ذلك صحيحا، ولكن انتهاك حرية الطالبة التي شجعتها الثورة على أن تعبر عن رغبتها الكاملة هو حركة بوضوح مع سلطة تريد تقييد ما يحبه ويريده الناس لأنه لا يعجبها، نفس الصديقة التونسية قالت لي إن كثيرا من التونسيين ينفرون من رؤية النقاب، وقلت لها بالمثل إن «إسلاميين» ينفرون من مرأى المتأنقات أو ممن يعتقدون أنهم يرتدون ويسلكون بخلاف الآداب الإسلامية.
إذا كانت كل «سلة» أو «شلة» ستحاول استخدام السلطة لكي لا ترى ما لا تحبه في المجتمع فسننتهي إلى قمع الأغلبية للأقلية ونمط حياتها بدعوى «الديمقراطية» وحكم الشعب، ولكن في المقابل يمكن أن نحاول الاتفاق على أن نعتاد رؤية ما نرفضه ولا ما لا نحبه وألا يحاول طرف ما فرض سلطة على آخر لتطويعه، بدلا من تطويع الإجراءات والقواعد لتسعنا جميعا، محاولة فرض سلطة من قبل «سلة» أو «شلة» يبرر نفسه دائما أن الشلّة الأخرى تفرض سلطتها ونمط حياتها وترفض رؤية ما لا تحبه، ولذلك من يغلب يركب!
يعتقد الكثير من الشباب الإسلامي أن النظم الاستبدادية التي تتساقط هي نظم فرضت تسلطا علمانيا على الشعوب ويشعرون ومعهم بعض الحق أن بعض المظاهر الإسلامية تعرضت للقمع والكبت وأنه جرى استبعادهم من المجتمع فأصبحوا «غرباء»، هذه الغربة هي التي ببساطة تسهل «الكفر» بالاجتماع الإنساني الذي أقصاها ووضع نفسه وقواعده ضد «بعض الدين»، وبالمثل محاولات الإسلاميين قمع وكبت أشكال مختلفة من أساليب الحياة والحريات سيؤدي إلى «غرباء» و «كفار» آخرين بقواعد الاجتماع الجديد التي تضيق بهم.
هل يمكن أن تتشكل «شلة» الرغبة الثورية في الحياة بكرامة وحرية للجميع على اختلاف «شللهم»؟، قد يكون هذا صعبا وسط الصراعات المتشابكة الآن، وقد يتطلب ذلك أن نخوض أولا معارك قاسية وربما دامية مع تسلط الأغلبية ورغبات الشعبوية في إخضاع الأقلية أو الأفراد، لكن فلنحاول أن نبدأ هذه المعارك بالتوقف عن تغذية سلة الإجراءات المتسلطة ضد رغبة الناس في الحياة وفق طريقتهم، أنا أتفهم انزعاج الأصدقاء التوانسة من إهانة علمهم «رمز اجتماعهم» ولكني أرى ما حدث طبيعيا جدا، فالرد على سلطة: «اخلعي نقابك قبل دخولك هنا» أو «اترك حريتك الفردية هنا»، سيكون دائما حركة ضد السلطة في اتجاه الرغبة: « سأدخل بحجابي، انزع علم سلطتك من ها هنا».
هل يمكن أن يكون البديل «كلنا أحرار هنا باستثناء حريتك في التحرك لفرض سلطتك وأخلاقك وحدك ولو كنت أغلبية»؟.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com