بقلم : مينا بباوى
حين احتشدوا في التحرير مطالبين بالديمقراطية، ظننت وظن غيري أنهم يدركوا ويعوا مطلبهم وأنهم يروا ما لا يراه أو ما لا يريد أن يراه غيرهم عمداً أو عن غير عمد. كانت هناك أصواتاً تصرخ محذرة من أن للديمقراطية شروط ومعطيات لا تتوفر في المشهد السياسي على ما آل إليه بعد عقود من الديكتاتورية ودولة الحزب الواحد من يوم قامت ثورة 1952، وأنه لا يمكن الرهان عليها دون تمهيد الأرض لها من خلال مشروع نهضوي ديناصوري يستغرق عقوداً لا سنين. بعض من شكك في مطلب الديمقراطية كان منتفعاً يدافع عن مصالحه الضيقة، أما البعض الآخر فكان يعبر عن قلق حقيقي من سيطرة التيارات الدينية على الشارع بعيداً عن دوائر النخبة، السياسية منها والفكرية. كنت وكان غيري يحذر، فكانوا يصرخون في وجوهنا مشفقين علىنا من غباءنا وسذاجتنا التي تجعلنا نرهب "فزاعة" !!!
عشية التاسع عشر من مارس ومع إعلان نتيجة الاستفتاء الذي هب كإعصار بدد كثير من الأساطير المؤسسة لما يسمى بـ"الثورة"، لم تعد التيارات الإسلامية مجرد "فزاعة" أو على الأقل، لم تعد "الفزاعة" حكراً على النظام الذي ادعوا أو ربما ظنوا بالفعل أنهم أسقطوه. فـ"الفزاعة" كانت قد انتقلت هذه المرة من يد "النظام" الذي طالما لوح بها ليرهب الجبهة الداخلية ويكسب تأييد وتعاطف وتغاضي الخارج عن انتهاكاته، إلى يد من خلفه وكيلاً عن "الثورة" فإذ به لا يلوح بها فقط وإنما يستخدمها بالفعل بكل حنكة وإتقان ودهاء سياسي.
انهارت أسطورة "الفزاعة" مع إعلان نتيجة الاستفتاء وظهر جلياً أن ثقل هذه التيارات الدينية إذا ما قيس بثقل التيارات الليبرالية والوسطية والطبقة المتوسطة والنخبة مجتمعة لا يقارن من قريب أو بعيد. بالطبع التمسوا المبررات وانبرت أقلامهم تفلسف وتنظر وتشجب وتفسر ما حدث. غير أن الأحداث التي تلت "موقعة الاستفتاء" أنزلت بنظرياتهم ورهاناتهم الهزيمة تلو الأخرى.
أثبتت الأحداث أن قدرتهم على الحشد هي بالفعل أقل كثيراً مما تصوروا أو صوروا لأنفسهم. وأثبتت المليونيات أن الشارع لا تعنيه المطالب السياسية المجردة (التعديلات الدستورية، الدستور أم الانتخابات أولاً، الحريات السياسية ...الخ) بقدر ما تحركه المطالب الملموسة والضيقة (المحاكمات، العداء لإسرائيل، تطبيق الشريعة، تحسين مستوى المعيشة، تحسين الأجور، فرص العمل، السكن، ...إلخ).
وشاءت سخرية القدر أن من اتهموا من اعتقدوا في "الفزاعة" بالسذاجة، ضربوا هم أرقاماً قياسية في السذاجة بل وفي البلاهة السياسية. ففي كل تحالفاتهم مع "الفزاعة" (التيارات الدينية) من يوم 28 يناير حتى "جمعة تورابورا"، أخرجت لهم الفزاعة المرة تلو الأخرى لسانها (أو بالأحرى عضواً آخر لا داعي لذكره وإن كان بعض "ذكره" ـ شكلها كما يحلو لك ـ بالإيحاء) ولم يتعلموا في أي منها درس المؤمن الذي لا يلدغ من جحر مرتين (يبدو أنهم لم يجدوا في هذه المقولة ما ينطبق عليهم واعتبروا أنها لا تخص إلا "المؤمنين") فلدغوا من نفس الجحر مرات ومرات.
ومع صدور قانون الانتخابات ـ الذي بحت أصواتهم من خلال القنوات الإعلامية وغيرها تطالب وتقترح تعديلات عليه تضمن صيغة تحول دون سطو فصائل التيار الديني وغير المؤهلين من فئات العمال والفلاحين على البرلمان ومن وراءه على السلطة ـ بات جلياً لهم قبل غيرهم أنهم رقصوا على السلم، فلا من هم فوق استمعوا لهم (المجلس العسكري وقانونييه ومؤسسات الدولة التي تأتمر بأمره) ولا من هم تحت أيدوهم (الشارع الذي أبدى عدم اكتراث شديد بالجدل الدائر حول القانون قبل وبعد إصداره).
كان الحديث عن صفقة بين المجلس العسكري والتيارات الدينية يراوح الصحف والإعلام، على استيحاء تارة وبجرأة أكبر تارة أخرى. البعض اشتبه في وجودها ولكنه احتفظ بشكوكه لنفسه، والبعض صرح بارتيابه، والبعض بات متأكداً منها فصرح بذلك. أما الأكثرية فكانت تبذل كل جهدها كي لا تصدق ما كانت في سريرتها تجد صعوبة بالغة في إنكاره.
وحين بات جلياً أنهم قد خسروا كل معاركهم وأن الشارع أدار لهم ظهره، وأن خصمهم "الفزاعة" قد أعد العدة لـ"غزوة الدستور" متسلحاً بقدرة على الحشد لا يمتلكونها وأرضية انتخابية مهد لها بالعمل الدءوب طيلة سنوات في النجوع والأقاليم والأحياء الفقيرة رغم كل ما تعرض له من اضطهاد ومطاردة، أخرجوا من قبعتهم "فأراً" أسموه "الوثيقة الحاكمة".
"الوثيقة الحاكمة" التي تبارت تياراتهم في صياغتها طيلة الأسابيع الأخيرة وطرح كل تيار صيغته الخاصة لها وكأنهم حتى في لجوؤهم لهذه الحيلة الهزلية قد أبوا أن يتقاسموا الأدوار ولو لمرة واحدة في هذا المشهد العبثي من فصول الملهاة، نجحوا أخيراً وبعد جهد جهيد في التوحد على صيغة لها (كان لابد للأزهر أن يتدخل لإنجاحها كي ما يكتمل المشهد الهزلي).
فإذ بالمتشدقين بالأمس بالديمقراطية هم أول من يدوسونها بأقدامهم حين أدركوا أن البرلمان القادم سوف تسيطر عليه "الفزاعة" بشكل مباشر أو غير مباشر وسوف تشكل الجمعية التأسيسية لتصيغ دستوراً من وحي تصوراتها الدينية للمجتمع والدولة. ثم يبلغ المشهد ذروة هزله حين تكتشف أنهم لا يثقون فقط في قدرتهم على التأثير على تشكيل وتوجهات الجمعية التأسيسية لأنهم غير واثقين أصلاً في قدرتهم على الفوز في أول وأبسط معارك الديمقراطية التي طالما نادوا بها (انتخابات مجلس الشعب)، وإنما لا يثقون فوق ذلك في قدرتهم على الحشد في الاستفتاء الذي سوف يجرى على الدستور الذي تصيغه الجمعية التأسيسية، كي ما يعيدوا إليها دستورها لو أنه جاء مخيباً لأوهامهم وأحلام يقظتهم الليبرالية المدنية الفلوطية التليدة.
"الوثيقة الحاكمة" في نشأتها كانت إعلان مبادئ وحريات أساسية لا يجوز للجمعية التأسيسية أن تخرج عنها بل وتملى عليها إملاءً قبل أن تتشكل وقبل أن تخط حرفاً واحداً في الدستور. ثم إذ أخذتهم الجلالة وصدقوا أنفسهم، أضافوا إليها قواعد وشروط تشكيل الجمعية التأسيسية نفسها ونسبة من يحق لهم الترشح لعضويتها من أعضاء مجلس الشعب القادم (50% من الأعضاء و50% من غير الأعضاء على أن يكونوا من ممثلي الحركات والتيارات السياسية والمؤسسات وغيرها !!!).
وأقف لأتابع المشهد ولا أجد على ما فيه من هزل ما يضحكني، بل أجد فيه ما يثير الغثيان أكثر من أي شيئ آخر. أشاوس الديمقراطية لا يجدون حرجاً في الالتفاف على أول وأبسط مبادئ ديمقراطيتهم الموعودة بكل تبجح وبكل ميكيافيلية "الغاية تبرر الوسيلة" !!!
ولا يحضرني أمام هذا المشهد الهزلي ما يباريه في هزله إلا صرخة القذافي "من أنتم ؟؟؟!!!". من أنتم حتى تنصبوا أنفسكم أوصياء دون انتخاب على إرادة الشعب التي لا يعبر عنها ولا يمثلها إلا ممثليه المنتخبين في البرلمان بينما أنتم من ناديتم وتشبثتم بالديمقراطية التي تتنصلون منها اليوم؟؟؟ من أنتم حتى تملوا مسبقاً على الجمعية التأسيسية المنتخبة من ممثلي الشعب ما يجب أن يتضمنه الدستور الذي الشعب هو وحده الحكم عليه أولاً وأخيراً من خلال الاستفتاء؟ من أنتم حتى تنتخبوا أنفسكم بأنفسكم بل وتنصبوا أنفسكم سلطة أعلى من سلطة البرلمان والجمعية التأسيسية التي يعتبر دستورها مرجع السلطات وقانون القوانين؟؟ من أنتم ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
ثم أنهم استهبالاً فوق استهبال وعجزاً فوق عجز وهزل فوق هزل ونفاق فوق نفاق لم يجدوا في أنفسهم وهم يلتفوا بهذه الطريقة على قواعد اللعبة الديمقراطية والعملية الدستورية، شجاعة أن يرسوا من مبادئ الدولة المدنية (غايتهم التي في سبيلها برروا لأنفسهم الوسيلة) أبسط قواعدها وهي ألا تتخذ الأديان مرجعية للحكم وألا يكون للدولة دين إلا المواطنة. فهاهم يبيعوننا دولة لا مواطنة فيها إلا لأتباع الأديان السماوية (التي هي سماوية لأن الإسلام نفسه يعتبرها كذلك ولو رأي غير ذلك لما جاء لها ذكر في وثيقتهم الحاكمة !). فوثيقتهم الحاكمة للحريات والمبادئ والدولة المدنية والمواطنة لا تعترف بمواطنة للبهائي أو الملحد أو حتى الشيعي لأنه ليس من أتباع الديانات المعترف بها !!!
حين احتشدوا في الميادين مطالبين بسقوط النظام أشفقت وغيري على هذا البلد من عملية جراحية خطيرة بدت لنا احتمالات فشلها تفوق احتمالات نجاحها بكثير. وحين قرعوا طبول المعركة رافعين أعلام الديمقراطية ظننا أنهم لها وكذبنا أنفسنا وهواجسنا بل وتجرعنا سيل اتهاماتهم وسبابهم بالتصريح تارة وبالتلميح تارة. كنا في نظرهم الجبناء الخانعين الأذلاء بلا كرامة راضين خانعين قابلين بانتهاك النظام ("أبو شامة") لكرامتنا وشرفنا وأعراضنا. كانوا هم الأحرار الشرفاء الثائرين على الظلم، الشهداء في أول صفوف معركة الكرامة ومن وراءهم جحافل شعب يؤيدها ويتوق لها فحتماً سوف ينتصروا له وبه في معركة الديمقراطية التي لم يكن لمثلنا أن يفهمها مثلما فهموها هم وراهنوا على استيعاب الشعب لها. لا بأس. أنا ومثلي جبناء خانعين عديمي الشرف والكرامة. هلا قلتم لي أين ذهب شرفكم وكرامتكم ورهانكم على فطرة ووعي هذا الشعب وأنتم تلتفون على قواعد الديمقراطية التي ناديتم بها بدلاً من أن تخوضوا معركة الانتخابات الديمقراطية بنزاهة وبسالة وتقبلوا بنتائجها ودستورها بشرف يا مدرسة الشرف ؟؟؟؟
أعجب لقدرتهم على عدم التقزز من أنفسهم أكثر مما أعجب من تبجحهم وغبائهم السياسي الذي دفع بالبلاد إلى هذا الكابوس الذي لا أرى منه مخرجاً آمناً إلا استيلاء العسكر على الحكم (إلى هذا القاع من المستنقع أوصلونا !!). لم أكن أتخيل يوماً أني من الممكن أن أجد في مواقف التيارات الدينية ما يستحق التأييد. ولكنهم فعلوها باقتدار. لأول مرة أجد نفسي مؤيداً لموقف التيارات الدينية من الوثيقة الحاكمة لأني لو فعلت غير ذلك لشاركتهم سخافتهم وتبجحهم ونفاقهم السياسي. لم أكن أتخيل يوماً أن أجدني مستعداً للسكوت على الانتهاكات والتضييق على الحريات ثمناً زهيداً لتفادي ما هو أسوأ. ولكنهم نجحوا في أن يدفعوني وغيري من عشاق الحرية والحريات إلى هذا الحضيض.
أيتها "النخبة" التي لم ينتخبها أحد وطالما تشدقت بالديمقراطية والحريات بينما أثبتت أنها هي أول من لن يجد حرجاً في القفز على السلطة وعلى الديمقراطية إذا ما وجدت لذلك وسيلة، طالما قلت وأكرر: أنتم أحقر وأفسد وأجبن وأغبى من مبارك ونظامه (على الأقل كان في فساده يدافع عن بقاءه ومصالحه المباشرة). أنتم من خنتم أنفسكم بمناسبة وبدون منسابة، وأنتم من ارتكبتم في حق أنفسكم وفي حق هذا الشعب من الجرائم أضعاف ما ارتكبه مبارك ونظامه وأنتم من سلمتم البلد والحكم لمن هو أسوأ من مبارك ونظامه. لا نهضة ولا إصلاح في هذا البلد إلا بتطهير الإعلام والمشهد السياسي والثقافي منكم، ودون ذلك لن يسقط النظام بل ستنزل بهذا البلد النكسات أشكال وألوان فأنتم أخطر على هذا البلد من الفساد ومن النظام الذي لم تسقطوه إلا في هذيانكم وأحلام يقظتكم.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com