بقلم: فايز فرح
من حين إلى آخر أحب أن أعيد قراءة الكتب المفيدة لكبار رواد الفكر والأدب، التي صدرت في عصر النهضة الفكرية والثقافية في القرن العشرين. الكتاب الذي أعدت قراءتة ربما للمرة العاشرة هو كتاب أستاذنا الكبير عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين "مستقبل الثقافة في مصر".
كلما قرأت هذا الكتاب كلما تعجبت كيف نملك هذا الكتاب المرجع الدستور للتعليم في "مصر"، بل والسياسة وكل ما يتعلق بالمستقبل، ونهمله ونصل إلى هذه الحالة المؤسفة من التعليم والسياسة والتخلف؟
من العبارات المهمة التي كتبها "طه حسين" في هذا الكتاب: "إنه لمن المضحك حقًا أن يقال إن الشعب مصدر السلطات في بلد كثرته جاهلة غافلة وقلته ذكية مثقفة"..
توقفت عند هذه العبارة المهمة، وبخاصة بعد أن ظهرت بعض نتائج الانتخابات لمجلس الشعب، والتي استطاع من خلالها التيار الديني أن يسيطر على الموقف ويحصل على معظم الأصوات.. شعرت أن أستاذنا الدكتور "طه حسين" كان على حق في قوله، فكيف يستطيع شعبنا الكريم الذى يعاني من الأمية التعليمية والسياسية أن يختار أعضاء مجلس الشعب؟
ولاشك أن هذا الشعب الكريم ليس له ذنب في جهله وتخلفه، وإنما هي النظم الفاسدة والمتخلفة التي حكمته وسيطرت عليه ووصلت به إلى هذه الحالة.
من الطبيعي أن يستغل المرشحون طيبة وأمية وفقر وجهل بعض أفراد الشعب لتحقيق مصالحهم والفوز بأصواتهم، عن طريق المال والهدايا العينية: من لحم، ودواجن، وخضر، وفاكهة.. ووصل ذكاؤهم إلى حل بعض المشاكل الوقتية الملحة، مثل مشكلة أنابيب البوتاجاز، فتجد من يطرق باب هؤلاء الفقراء الطييبن من شعبنا ويقدّم له أنبوبة بوتاجاز مملؤة وجاهزة للاستخدام، ثم يقول له: هذه من الأستاد فلان المرشَّح وهو يسألكم هل تحتاجون لأي شئ آخر؟
وأمام هذا الكرم الحاتمي، ماذا يفعل هذا المواطن الأمي الفقير الذي قضى أسبوعًا وأكثر يبحث عن أنبوبة بوتاجاز فلم يجدها مع أنه استطاع بالعافية أن يوفر ثمنها الذي وصل في السوق السوداء إلى مائة جنيه أو أكثر؟
إن أقل واجب على هذا المواطن الذي حصل على الأنبوبة وأشياء أخرى يحتاجها هو أن يذهب إلى الانتخابات ويرشّح هذا المرشّح الكريم المعطاء..
الشعب المصري يؤمن بالمثل القائل: "اطعم الفم تستحي العين". وهؤلاء المرشحون يلعبون على هذا المثل ويطبقونه، لا لوجه الله ولا لكرمه الشديد، بل من أجل أصوات الفقراء والأميين ويحصلون عليها فعلًا.
يحدث هدا دون أن يعلم الناخب الغلبان شخصية المرشَّح الذي سينتخبه، ولا برنامجه الانتخابي، ولا مذهبه السياسي، ولا أخلاقه الشخصية وسماته الإنسانية، وهل هو إنسان جاد يستطيع فعلًا أن يكون عضوًا بمجلس الشعب يدافع عن حق الشعب في الحياة الحرة الكريمة، ويتمتع بتعليم مناسب مستنير، وإعلام يتحدث إلى العقل ويهاجم الغيبيات ويعلي قيمته الإنسانية المستقلة من أجل "مصر" المستقبل، المزدهرة، القوية في فنها وفكرها وعلمها.
إننا نحتاج لمثل هذا العضو البرلماني القوي الذي لا يستغل جهل وفقر المواطن لكي يصل إلى مقعد البرلمان، بل نحتاج إليه ليرتقي بالإنسان المصري لكي يكون إنسانًا عالميًا يعرف ما يدور في العالم كله، ويواكب حضارة القرن الحادي والعشرين، لا يأخدنا إلى تمنيات وتخلف العصور المظلمة أو العصور الوسطى. نريد من عضو مجلس الشعب المنتخب أن ينقلنا إلى الحضارة العالمية الحقيقة لا العولمة الظالمة التي ضحكوا علينا بها وسرقونا ونهبونا باسمها. نحتاج إلى عضو مجلس شعب يعطي أكثر مما يأخد، ويؤمن بأن "الدين لله والوطن للجميع"، ويعرف أن عضوية مجلس الشعب مسئولية قبل أن تكون تكريم.. الذي نريده هذا لا يستطيع أن ينتخبه ويعرفه ويفرزه من بين المرشحين إلا المواطن المتعلم المثقف الذي لا يعطي صوته بأنبوبة بوتاجاز أو ببعض المال والهدايا العينية من لحوم ودواجن وأسماك وخضر وفاكهة. فالعضو الذي يُنتخب بهذه الهدايا سيبيبع مصلحة الوطن والمواطن التي هي أهم أهدافه.
من أجل ذلك نقول بصراحة كاملة إن الانتخابات التي جرت في "مصر" لم تكن نزيهة مئه في المائة، بل كان يشوبها الكثير من الأخطاء والخطايا. ولو كان شعبنا على قدر كبير من العلم والثقافة ما كانت نتيجة الانتخابات تكون هكذا. ويكفي أي مثقّف أن يعرف كيف عانت شعوب أوروبا من سيطرة الكنيسة وديكتاتوريها وقتلها للعلماء وحربها مع بعضها، فتم سلب ونهب ممتلكات الشعوب باسم الدين، حتى جاء عصر النهضة وثارت شعوب أوروبا على الكنيسة وفصلت بين الدين والدولة، وبدأ عصر الحرية والتقدُّم والرفاهية لها.
أقول.. يكفي أن يعرف أي مثقف هذا التاريخ الأسود لديكتاتورية الدين عندما يسيطر على الحكم ليختار نظام الدولة المدنية العلمانية. والعجيب أن معظم رجال الدين في "مصر" يشرحون للناس العلمانية على أنها الكفر، وهذا تفسير خاطئ جاهل.
لكن ماذا نقول: لنا الله في شعب جاهل فقير, ورجال دين يغيبون عقل المجتمع!.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com