ÇáÃÞÈÇØ ãÊÍÏæä
طباعة الصفحة

حاولت يا عزيزي... شريعتك هي التي حكمت...!!!

نبيل المقدس | 2011-12-03 15:47:04

 بقلم: نبيل المقدس
عماد الدين راضي.. جاري منذ الصغر في حي "شبرا"... بابه قبال بابنا... تربينا معًا... كانت أبوابنا مفتوحة علي بعض طيلة اليوم... بدون تكليف كان يدخل شقتنا... وأنا أيضًا... تقريبًا كان نوعية الغذاء واحد..

أتذكَّر أن والدته ووالدتي كانتا يتركان الشقتين ليذهبا إلي سوق الخضار... كان أغلب الوقت والدته ووالدتي ومعهما مدام "نيتا" الجارة الثالثة في نفس الدور، واقفتان في طرقة السلم كل منهما أمام شقتها... يستمعان إلى مدام "نيتا" في توصيف بعض الأكلات الخاصة، وخصوصًا كانت خبيرة ولهلوبة في عمل الحلويات بجميع أنواعها واشكالها... لكن الحياة الحلوة لا تدوم، فقد فاجئتنا مدام "نيتا" أنها قرَّرت هي وعائلتها الهجرة إلى "اليونان" بعد حرب 67... كان هذا الخبر بمثابة طعنة لي لأنني سأفقد سوزانا ابنتها مدى الحياة... فقد كانت هناك مناوشات حب الصبا بيني وبينها... كنا نقف بالساعات في البلكونة التي كانت تجاور بلكونتها نتبادل أجمل القصص التي كنا نقرأها لأعظم كبار الأدباء... ونستمع لأحلى الأغاني في هذا الوقت من ملوك الغناء، أمثال "عبد الحليم" و"فايزة" و"نجاة" و"شادية"... إلخ.

كان "العمدة"، وهو الاسم الذي كنت أطلقهُ على جاري "عماد"، هو الوحيد الذي أفصح له عن كل ما يدور بيني وبين "سوزانا"... كان صديق وفي... لا يبخل أبدًا عن مساعدتي، وخصوصًا كانت الأحوال المادية أنا ووالدتي يا دوب تكفي احتياجاتنا الهامة لوفاة والدي منذ نعومة أظافري. كنت أعيش أنا ووالدتي بمفردنا... لكن لم نشعر لحظة أننا نعيش بمفردنا... كان عم "راضي" والد صديقي العمدة يتكفل بالكثير من المصاريف المدرسية بطريقة غير مباشرة... كذلك كانت والدة العمدة بمثابة الأخت والصديقة لوالدتي.

حصلت أنا و"العمدة" على الثانوية العامة... بيني وبينكم كان مجموعي قليل... ومجموع العمدة يادوب دخل به معهد تجاري سنتين... وبفضل أبو "العمدة" بحث لي عن عمل، بعد ما عرض عليَّ وعلى ابنه أن نعيد الثانوية العامة لكي نحصل على مجموع أعلى يؤهِّلنا إلى كليات أعلى مستوي.. لكن بالنسبة لظروفي الخاصة، فضَّلت أن أتمسك بأي وظيفة لكي لا أجهد والدتي أكثر من هذا.. وفي نفس الوقت أصرَّ أيضًا "العمدة" أن يكتفي بالدبلوم. ومضت بنا الأيام بأحداثها السياسية، واعتبرنا أن السنة التي توفى فيها مطربنا المفضل "عبد الحليم" هي نهاية جيل وبداية جيل آخر.. وفعلًا بدأت مظاهر الحياة تتغير... بدأت الثقافات بين الشعب المصري تختلف عما كنا فيه... بدأنا نلاحظ ما يُسمَّى بالحجاب على رؤوس بناتنا... وانتشرت أكثر بعد حرب 73 إلى أن دخلنا في أواخر القرن السابق... ومن غير ما أشعر وجدت والدة العمدة تتحجب.. قلت في نفسي: ربما يكون بحكم السن وتريد أن تغطي شعرها الذي بدأ يقل ويشيب... لاحظت أيضًا أن والد "العمدة" قد خلع الجلباب وبدأ يلبس الجلاليب البيضاء.. قلت لنفسي: ربما مل من لبس البدل "ودوشة ربطة عنق الكرافت" ويريد أن يرتاح وخصوصًا بعد ما أخذ المعاش... لكن وجدته أيضًا يربي لحيته.. فسألت صديقي عن سبب ترك والده لحيته.. فكان جوابه في منتهي البساطة.. أصلها "سُنَّة". لم أركِّز عما حدث من تغيير في عائلة "العمدة" لأن الوصال كان موجودًا بل وأكثر شدة.

برغم أنني تزوجتُ وتزوَّج صديقي "العمدة" كنا نلتقي دائمًا في بيتنا القديم مرة في الأسبوع.. فهو أخذ شقة في "شبرا البلد"، وأنا أخذت شقة في "البساتين".. لكن البعد لم يجعلنا ننفصل أبدًا. تعودنا منذ صبانا أنا وصديقي وأولاد الحتة أن نذهب كثيرًا إلى "الفيوم" لكي نصطاد سمك.. ظلت هذه الهواية تنمو معي أنا و"العمدة".. لدرجة كنا نستغل بعضًا من الأجازات والعطلات ونذهب إلى أماكن نحددها حيث نزاول فيها هوايتنا الجميلة.. وفي بعض الأحيان يأخذنا الشغف والطمع لكي نجني أكبر كمية من السمك، مما يجعلنا نبقى في هذا المكان ليلتين.

في أحد الأيام رن التليفون الأرضي، فإذ بي أسمع صوت صفاء زوجة "العمدة" وصوتها فيه اضطراب وانزعاج شديد.. فهمت منها أنه تم القبض على "العمدة" وهو موجود في قسم بهتيم الذي يتبع "شبرا الخيمة" متهمًا بسرقة الخزنة التي كانت في عهدته. على طول أخذت محامي كان صديقًا وجارًا لنا، وهرولنا إلى قسم "بهتيم" قبل أن يرحِّلوه إلى النيابة.. أول ما رآني "العمدة" تصوَّرتُ أنه وجد مفتاح إفراجه فورًا.. فقد كنا فعلًا في الوقت الذي حدَّده البلاغ عن سرقة الخزينة في "الفيوم" نصطاد سمك، ومكثنا يومين هناك، وهي فترة الأجازة والتي تمت فيها سرقة الخزنة. صرخ "العمدة" يا حضرة الظابط "الشاهد وصل، وهو يقول لك كنا فين في وقت سرقة الخزينة".. أخذ الظابط اقوالي بعد تسجيل اسمي.. وتمتم في سره: "ابقى قابلني لو شهادتك هتنفع".. تعجَّبت جدًا من كلامه.. وشعرت بالإهانة.

أدليتُ شهادتي لوكيل النيابة في يوم عرضه على النيابة.. وإذا بي أفاجأ بأن وكيل النيابة ينظر لي "من فوق لتحت ومن تحت لفوق" بنظرات احتقار واستهجان.. ثم نادى على "العمدة" وقال له: معك شهود آخرين؟؟؟.. فرد عليه "العمدة" بالنفي.

تم تحديد جلسة للحكم.. وطبيعي كشاهد كنت واقف خارج القاعة منتظرًا ميعاد دخولي إلى القاعة لكي أدلي بأقوالي.. نادى عليّ حاجب المحكمة... وبعد الإدلاء بالقسم والتأكيد على اسمي... إذ بي أفاجأ بالقاضي- وأمام الأهل وأبناء الحتة وموظفي شركته- يقول لي: "شهادتك يا بولس لا تصلح".. وإذا بى أسمع همهمة في القاعة عن سبب عدم صلاحية شهادتي...

أخيرًا أكمل القاضي حيثيات حكمه قائلًا: "بما أن الشاهد الوحيد في القضية من أهل "الذمة" فهو يُقدر بنصف شاهد".. وحكمت المحكمة بقطع ايد "العمدة".. هاج الشعب وماج على هذا الظلم البيِّن.. تيقنت بعد ذلك أننا في عهد الدولة الدينية.. وأن الحكم أصبح بالشريعة السمحاء بعد أحداث ما يُقال عليها ثورة الحرية والعدالة الاجتماعية والتي حدثت يوم 25 يناير 2011.. وتم سلبها من تحت أقدام الثوار الحقيقيين ومن تحت جثث الشهداء، وذهبت إلى من كان يتربَّص لها منذ أكثر من 80 سنة لكي يعيدها إلى عهود الظلام.

أخذت على نفسي أن أكون له بدل اليد المقطوعة ظلمًا.. كنت دائمًا الرفيق الدائم له.. فقد أُصيب بصدمة عصبية عظيمة جعلته لا يستطيع أن يتحرك.

كنت دائمًا أنظر إلى عينيه.. وأتحادث معه في سري: "حاولت يا عمدة أن أنقذك... لكن شريعتك كانت أقوى وأسرع من شهادة الحق".

 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع

جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com