بقلم: يوسف سيدهم
تفاقم أحداث العصيان المدنى والعنف التى اندلعت منذ أسبوعين تركنى عاجزاً عن الفهم،خاصة وأننا كنا فى سياق العد التنازلى للانتخابات البرلمانية التى تبدأ فعالياتها غداً، أى أننا-بعد طول جدل وتعليق وتأجيل-على وشك أن نخطو أولى خطوات المرحلة الانتقالية نحو إعادة تشكيل مؤسسات ديموقراطية ودستور جديد ورئاسة مدنية لمصر الجديدة...خريطة الطريق التى طالما تطلعنا إليها يتم تفعيلها،والشكوك التى سيطرت على عقول الكثيرين إزاء نجاح الثورة كانت فى طريقها إلى التبديد، لماذا إذاً إفساد كل ذلك؟ومن ذا الذى تملى عليه مصلحته إجهاض الثورة؟
أذكر أننى اختلفت مع زملائى من شباب الصحفيين فى الأسابيع الأولى للثورة عندما أصروا على حتمية رحيل مبارك بالرغم من إعلاناته-التى أعترف أنها جاءت متأخرة-بالتزامه بالتعديل الوزارى والدستورى وعدم ترشيح نفسه للرئاسة مرة أخرى، لأنى وقتها كنت أرى أن هناك مجموعة من المكتسبات تحققت بالفعل وأن الثورة باقية مشتعلة بحيث لا يمكن لمبارك أو نظامه أن يتلاعبوا بها أو يخدعوا المصريين،لكن شباب الثورة أصروا على الزحف إلى قصر العروبة والضغط على مبارك حتى ترك الرئاسة ونقل سلطاته إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة لتسيير شئون البلاد...وقتها زغرد الشباب وهللوا بنجاح الثورة فى إسقاط النظام، لكنى تحفظت على ذلك لأنى رأيت أن مصر فى الوقت الذى تخلصت من حكم دكتاتورى فاسد انتقلت إلى المجهول بلاقيادة سياسية وبلا برنامج وبلا مؤسسات، وأن حجم المخاطرات التى تنطوى على ذلك كبير
وبالفعل وسط نشوة نجاح الثورة عاشت مصر زهاء أسبوعين فى مشهد وطنى رائع والتحام جميل بين كل المصريين، لكن سرعان ما بدأت هذه السماء الصافية المشرقة تتلبد بغيوم رمادية وزحفت موجات الانفلات الأمنى والبلطجة حتى صارت إعصاراً عصف بالمصريين الآمنيين- ومازال حتى يومنا هذا-ثم انفجرت حملات اختطاف الثورة بواسطة سائر التيارات السياسية الدينية التى طفت فوق السطح مع نجاح الثورة كل منها يحاول فرض نفسه وأجندته بشتى الوسائل ليقتطع لنفسه أكبر قطعة ممكنة من الكعكة...ولم يكن مهما أن يتم ذلك بالإقناع والترغيب وجذب الجماهير، بل كانت الأدوات المتبعة لإدراك الهدف أقرب إلى الزعيق والتهديد والإرهاب...وذلك برمته زادنى توجساً أننا نتجه إلى المجهول.
وعندما انطلق الثوار بعد ذلك يرفضون وزارة أحمد شفيق متناسين نجاحاته ومتنكرين لإنجازاته ومصرين على رحيله مع كل من كانوا ينتمون لنظام مبارك،كتبت وقتها»هل بدأت الثورة تأكل نفسها؟« وكنت فى ذلك محتجاً على مارأيته استسلاماً للمشاعر وتغييب العقل من جانب الثوار...ثم توالت السقطات من كل جانب:ثورة فقدت رشدها وسلطة حاكمة-سواء عسكرية أو مدنية- متقاعسة بشكل مفزع عن فرض القانون والذود عن هيبة الدولة...وطالما حذر الكثيرون من مغبة ذلك التقاعس الذى يفتح شهية الأشرار والمجرمين والبلطجية للمزيد من تحدى المجتمع والدولة،وتأكدت مخاوفهم فى سلسلة من موجات الاعتداءات والجرائم علاوة على كافة أشكال العصيان المدنى التى تكررت فى قطع الطرق والسكك الحديدية واعتراض المواصلات العامة وتفجير شبكات المرافق وخطوط إنتاج وتصدير الغاز...تفشى كل ذلك بلا أدنى رد فعل صارم من جانب السلطات المسئولة لفرض القانون والذود عن هيبة الدولة اللهم إلا مرة واحدة عندما جاء رد الفعل الفورى الصارم من جانب المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعد انفلات الإرهابيين ومن اختطفوا الثورة وإعلانهم عن عزمهم اعتراض الملاحة فى قناة السويس.
.
لا غرابة إذا فى أن تلك السلوكيات تتفشى، ولا عجب فى أن كل مظاهرة أو احتجاج أو تعبير عن مطالب ينقلب إلى انفجار للعنف والتحطيم والحريق وكأن تخريب المرافق العامة وترويع الآمنين وتدمير الاقتصاد الوطنى هى وسائل فرض الرأى....وكان آخر الفصول فى تلك السلسلة البائسة ماشهدته دمياط ورأس البر منذ أسبوعين من حصار مصانع شركة»موبكو« واتهامها بالإضرار بالبيئة وتعريض صحة المواطنين للخطر وما صاحب ذلك من قطع الطريق الساحلى الدولى وتعويق المسارات المؤدية من وإلى ميناء دمياط وشل حركة التجارة العالمية فى الميناء تماماً،الأمر الذى ألحق ضرراً جسيماً بالاقتصاد وهدد بإعلان ميناء دمياط غير آمن للتجارة العالمية...والغريب أن ماثبت بعد ذلك أن المصنع المتهم يعد واحداً من أكبر تسعة مصانع على مستوى العالم تطبيقا للمعايير البيئية ولا توجد مخالفة عليه!!
وقبل أن ننتهى من مأساة دمياط ورأس البر تنفجر أحداث العنف فى ميدان التحرير ويتم تصديرها إلى الإسكندرية والسويس وغيرها من المدن الرئيسية، وبطبيعة الحال تصاحبها كل أشكال الانفلات والعنف وتحطيم المبانى والمحلات والسيارات ومحاولة اقتحام المنشآت الحكومية...وتبحث عن السبب لتكتشف قدرا ضخماً من التشكيك فى كل ما تحقق حتى الآن، وإصراراً على إملاء السياسات ووضع الجداول الزمنية لتسليم السلطة إلى المدنيين،وكأننا مازلنا فى ضباب سياسى بلا خريطة طريق وبلا توقيتات زمنية معلنة ومتفق عليها وبلا انتخابات مصيرية على الأبواب.
يؤسفنى أن أقول إن هناك بيننا من يصر على إفساد الانتخابات وإجهاض الثورة، وتساعدهم على ذلك تيارات سياسية من مصلحتها تأجيج الفتن ونشر الفزع لفرض هيمنتها بالإرهاب لإعادة الأغلبية الصامتة إلى صمتها مرة أخرى بعد أن ثبت عزمها على المشاركة وإنقاذ مصر...لكن مازال مستقبل مصر مرهونا بخروج الأغلبية الصامتة غداً وإجهاض هذه المخططات.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com