ÇáÃÞÈÇØ ãÊÍÏæä
طباعة الصفحة

مطلوب قائـد للثورة

عزمي إبراهيم | 2011-11-24 00:00:00

بقلم: مهندس عزمي إبراهيم

كان عصر النهضة المصرية في النصف الأول من القرن العشرين أزهى وأنضج وأرقى عصور مصر منذ أن نزل بها الإسلام. ولم تـُسَمَّى هذه الفترة بالـ "الزمن الجميل" عفواً أو اعتباطاً. فقد كانت مصر مكتملة الجمال والرُّقي والنضوج في جميع مجالاتها الحيوية: دينية وأخلاقية وحضارية. حَكـَمها وقادها وخدمها في هذه الفترة أعظم وأنزه مصريين مسلمين وبجانبهم كتفاً بكتف ويداً بيد وقدماً بقدم أشراف من أقباط مصر عظماء في السياسةً والوطنية والاقتصاد والعلم والتعليم والأدب والفن.


بعد عصري الحكم اليوناني والروماني بصرف النظر عن طبيعة هذين العصرين، عاشت مصر تحت الحكم الإسلامي العربي المغلف بالتعصب الديني منذ القرن السابع الميلادي حتي بدء القرن التاسع عشر حين بدأ حكم محمد علي المسلم التركي الأصل عام 1805م، فأنهض مصر من عصبيات الهَوْسَة والدروشة الدينية إلى دولة مدنية عقلانية متحضرة فكرياً أرساها على الكفاءات بغض النظر عن أي عقيدة أو عرق أو جنس أو لون. فطفرت مصر الناهضة في عصره وعصر أسرته من بعده فصارت نجمة باهرة وقائدة للشرق بجدارة لدول الشرق جميعاً حتى انقلاب العسكر في 1952م.


عَرِفت مصر في عهد محمد علي لأول مرة الكتاب المطبوع حيث كانت وسيلة الكتابة حينئذ مازالت خطية، فأنشأ مطبعة "بولاق". كما قام بإنشاء أول مؤسسات ثقافية عرفتها مصر فأنشأ المكتبة القومية والأرشيف القومي والمتحف القومي. وقام بتنظيم الجيش على النظام الأوربي، وارسال البعثات التعليمية من خريجي الأزهر (حيث لم يكن بمصر جامعات في ذلك الوقت) ومنهم رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وغيرهما للدراسة والتخصص بجامعات أوروبا فعادوا محملين بأفكار تدعو إلى تنظيم المجتمع على أساس علماني عقلاني متفتح عصري، كما قاموا بترجمة الكتب الأوربية العلمية والثقافية والفلسفية التي تمجد التحرر من خطورة تعسفات وسيطرة القيود الدينية التي سيطرت على أوروبا زمناً حتى تخلصت منها بالمدنية وحرية الفكر وفصل الدين عن الحكم والسياسة


ثم بعد محمد علي أنشِئت دار ألأوبرا في عهد اسماعيل باشا الذي فتح قناة السويس لتوصل العالم الشرقي بالعالم الغربي. وأنشِئت أول جامعة مصرية وهي جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن). وتبعتها جامعة فاروق الأول (جامعة الإسكنرية الآن) وكلية فيكتوريا الانجليزية بالاسكندرية لتعليم أبناء أشراف وقادة مصر حينئذ، والجامعة الأمريكية بالقاهرة. وأنشأ الأخَوان بشارة وسليم تقلا صحيفة الأهرام في 1875م، وأنشأ جورجي زيدان مجلة الهلال في 1892م، وأصدر سليم النقاش صحيفة المقتطف في لبنان ونقلها إلى مصر في 1884م.


وأنشأ الإمام العظيم محمد عبده وهو تلميذ جمال الدين الأفغاني مجلة العروة الوثقى 1883م، وكان من مبادئه التحرر من التقاليد والقيود الفكرية والاجتماعية، وإدخال العلوم العصرية إلى الأزهر لتطويره. وفى عام ١٨٩٩ قدم محمد عبده القراءة المصرية الناضجة للإسلام فخلص العقل المصرى مرة واحدة وإلى الأبد من التعصب والخزعبلات. ومما ذكر أنه حين أصبح الحجاب وقتئذ زياً عاماً والنقاب أحياناً بين نساء مصر المسلمات قام الامام محمد عبده بنسف ما اعتبره البعض أساسا دينيا معلناً أنه مجرد عادة من عادات دول أخري وليست دينية ملزمة.
ونادى قاسم أمين وهو تلميذ محمد عبده بتحرير المرأة وتمكينها من التعليم والعمل في المجالات العامة والحكومية وأصدر في ذلك كتابيه الشهيرين "تحرير المرأة-1899م" و "المرأة الجديدة-1900م". كما تأثر سعد زغلول بآراء محمد عبده وكان وزيراً للمعارف 1906م فأنشأ مدرسة القضاء الشرعي بقصد تطوير الفكر الإسلامي من خلال مؤسسة غير أزهرية. وتولى أحمد لطفي السيد شؤون الجامعة المصرية منذ تسلمتها الحكومة المصرية عام 1916م وحتى 1941م تقريباً ونادى بـ "الوطنية الاقليمية" وهو صاحب العبارة المشهورة "مصر للمصريين" عام 1907م. كما كان محمود عزمي من أكبر دعاة "الفرعونية" في مصر ومردد القول المشهور "إذا ذكرت الاقتصاد فلا تذكر الشريعة، وإذا ذكرت الشريعة فلا تذكر الاقتصاد".
وقد عاصر وتبع هؤلاء الكثيرون من المتفتحين عقلياً وفكرياً الذين نادوا بفصل الدين عن السياسة وحكم الدولة، منهم على عبد الرازق حيث نشر في كتابه عن الإسلام وأصول الحكم عام 1925، أن الإسلام دين فقط وليس ديناً ودولة. وطبعاً كعادة العرب باضطهاد وتكفير وتلحيد بل وقتل كل عبقري مفكر حوكم الكتاب والمؤلف من قبل هيئة العلماء بالأزهر في 12/8/1925م وصدرت ضده إدانة أخرجته من زمرة العلماء. كما اتهم منصور فهمي عن رسالته للدكتوراه عن حالة المرأة في التقاليد الإسلامية وتطوراتها، والدكتور طه حسين المفكر والأديب وعميد الأدب العربي في مصر والعالم الإسلامي لكتبه وكتاباته وآرائه العلمانية،. والدكتور زكي مبارك عن آرائه المتفتحة، وحتى محمد حسنين هيكل في الفترة الأولى من حياته لآرائه التي تراجع عنها بعد ذلك تحت ضغوط.
في هذه الفترة الباهرة قامت ثورات سياسية وفكرية عديدة بمصر، وكان لكل ثورة قادة وقيادة. ذكرنا فيما سبق عدداً من قيادات الثورة الفكرية، ونضيف عليهم الشاعر القدير أحمد شوقي الذي بويع من جميع شعراء الشرق في احتفال عظيم بدار الأوبرا بلقب أميرالشعراء، وحافظ إبراهيم شاعر النيل، وخليل مطران شاعر القطرين (مصر وسوريا) وتوفيق الحكيم وعباس محمود العقاد وغيرهم كثيرين في الأدب الكتابي نثرأ وشعراً. ومن قادة ثورة التصنيع والاقتصاد طلعت حرب الذي أنشأ "بنك مصر" أول بنك مصري. ومن قادة وقيادة الثورات السياسية أحمد عرابي ومصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول وسينوت حنا وفخري عبد النور ومكرم عبيد ومصطفي النحاس.
وهنا أود أن أقف وأشيد بعظمة وتفتح وحرية سعد زغلول المسلم الأزهري أول وآخر من لقب بـ "زعيم الأمة"، كقائد حزب الوفد وقائد ثورة وقائد أمة تتشوق للتحرر والتقدم. حيث قادها مخلصاً إلى ما أمِلـَت. فعندما ألـَّف أول وزارة، قدَّم للملك فؤاد قائمة المرشحين المقترحين لوزارته، فأمسك الملك فؤاد بالقائمة قائلا له: "هناك غلط في العدد"، لأن عدد الوزراء عشرة وكانت التقاليد أن يكون تسعة (ثمانية مسلمون وقبطي واحد)، وهؤلاء ثمانية مسلمون واثنان من الأقباط اقترحهم سعد زغلول، وهما مرقص حنا وواصف غالي، فقال سعد زغلول للملك فؤاد: "هذه وزارة ثورة لا وزارة تقاليد".


ومما يجدر ذكره أيضاً أنه حين أوعز البعض للملك فاروق في عام 1937أن يحتفل بجلوسه على العرش فى القلعة، قلعة جـِدِّه الكبير محمد علي، ليوحى لسماسرة الدين ومدعي التدين والدروشة وبسطاء الشعب بأنه خليفة المسلمين، احتج مصطفى النحاس رئيس الوزراء، الفلاح المصري وابن مصر البار، بقوة وأصَرَّ على أن الدولة فى مصر دولة مدنية، ولابد أن يكون جلوس الملك أمام البرلمان الذى يمثل الشعب.
وهناك واقعة أخرى معروفة ومتداولة جديرة بالذكر عن هذا الرجل العظيم. وذلك حين أتى إليه أحد السياسيين الشبان ليعرض عليه برنامجه السياسي قبل الانتخابات، فما أن بدأ فى قراءة البرنامج حتى طواه النحاس وأعاده لصاحبه قائلا: "لماذا تتحدث عن الله فى برنامج انتخابى؟! عندما تذكر لفظ الجلالة فى ورقة سياسية تتحول فوراً إلى دجال يتاجر بعواطف الناس ومشاعرهم الدينية." ومما يجب التنويه به هنا أن مصطفى النحاس كان مسلماً مؤمناً ورعاً تقياًً يحافظ على فروض الإسلام جميعاً حتى قيل أنه لم يُقـَصِّر عن صلاة الفجر إلا مضطراً ونادراً، لكنه كان حضارياً مدنياً ووطنياً متنوراً وفياً لمصر يعلم خطورة استعمال ورقة الدين أو لعبة الدين في سبيل الوصول إلى السلطة والمناصب.
كانت مصر في "الزمن الجميل" عصر النهضة دولة ناضجة بكل مقياس اجتماعي وثقافي وديني وكانت قائدة الشرق بلا منازع أو منافس وكانت أختاً مخلصة مساندة لجميع الدول العربية. وهنا نلمس صورة مشرفة للقيادة الوطنية النزيهة فى تعليم وتثقيف الشعب معاني الحضارة والسماحة والحرية والاستقلال، وان التعليم هو الركيزة الوحيدة الضرورية لنهضة وتقدم البلاد. لأن تفعيل العقل، وهو ميزة الانسان عن جميع الخلائق، هو منبع التفكير السليم والضوء العادل الذي ينير الطريق إلى المستقبل والطموح الى حياة أفضل للشعوب.
فى عصر النهضة وانتفاضات الشعب المصري بقياداته المخلصة الناضجة لم يكن هناك مصري مسلم ومصري مسيحى، بل كان الكل مصريين. فمنذ البداية والأقباط لهم الريادة والمشاركة الايجابية فى تنوير وتعليم الشعب. أذكر منها مثلا واحدا: كان جورجي زيدان مؤسس مجلة الهلال أول من إقترح إنشاء جامعة مصرية لتثقيف الشباب المصرى داخل مصر. وكان أول من شكل اللجنة لجمع الأموال اللازمة لإنشائها. فافتتح الإكتتاب العام من أجل انشاء جامعة فؤاد الأول (القاهرة الآن)، بل هو من طلب أن يكون التعليم فيها باللغة العربية حتى تكون متاحة لأبناء الشعب. كان المصريون، مسلمون ومسيحيون، حينئذ فخورين بمصريتهم بدون النزعة العربية الخاوية إلى أن جاء عبد الناصر بطموحاته الأنانية الموهومة ليمحو اسم "مصـــــر" الجميل، ويستبدله بـ "الجمهورية العربية المتحدة" أو "امبراطورية ناصر" أو "امبريالية ناصر" التى لم يكتب لها الحياة إلا أيام، ولكنها ألقت على كاهل مصر وأبناء مصر أثقالا وأحمالا وأضراراً ومصائباً ما زالت تجثم فوق صدور المصريين جميعا مسلمين ومسيحيين حتى يومنا هذا.
وظل الفهم المصرى المتسامح للإسلام مستقرا فى مصر في طوال عصر النهضة حتى إنقلاب يوليو 1952 وتولي جمال عبد الناصر ودعوتة "المغرضة" للعروبة فبدأت بعض النزعات الدينية التعصبية وان كانت متوارية بعض الشيء ولكنها كانت ملحوظة لمن له بصيرة ولمن قاسى منها. تبعتها تصرفات أنور السادات المتعسفة الجريئة الصريحة بل الوقحة ضد الأقباط ورئيس الكنيسة المصرية. وبعدها سياسة حسني مبارك وتلاعبه بورقة الدين لتمزيق النسيج الوطني والاجتماعي المصري في سبيل الحفاظ على توازنه مع الجماعات الدينية المتطرفة حتى غلبت هذه التصرفات على المجتمع بكامل جوانبه. ومما ساعد على التهيّج الديني أيضاً اندلاع حرب أكتوبر عام ١٩٧٣م، وارتفاع سعر البترول إلى أضعاف قيمته حينئذ مما أعطى الدول الخليجية النفطية قوة اقتصادية غير مسبوقة أدت إلى الإندفاق الفيضاني للوهابيين في مصر وتداخلهم في نخاشيشها وسياستها وأمنها... بل وتشويش الروح المصرية الطيبة المعهودة والمشهورة عن شعبها.
هذه كانت نهضة مصر بثورات شعبها السياسية والوطنية والثقافية والقيادات التي قادتها لتحقيق أهدافها. تبعتها ما يقرب من ستون سنة من الانحدار السياسي والقيادي والاجتماعي والاقتصادي بل والديني مما دفع شباب مصر الحر إلى القيام بثورة 25 يناير 2011 بدماء حارة وقلوب غاضبة لما وصل إليه حالة مصر في عقود عقيمة قاتمة أخـَّرت مصر قروناً. أتت الثورة متقدة متشوقة للحرية وآملة في وطن حر لا يغلفه الفساد ويحكمه القمع والكبت والتعصب والتفريق بين مكونات الوطن من أديان وطوائف ومباديء مختلفة.
وكطبيعة الشباب من حرارة واندفاع غاضب تجاه شعورهم وآمالهم كان فاتهم بعض العوامل الضرورية لنجاح الثورات. وهي عدم وجود قائد ناضج موحد للثورة، يعوض عن عدم خبرة الشباب بالألاعيب السياسية وشراسة الأحزاب أو العصابات الدينية التي ليس لها ضمير وطني والتي هي مأجورة إما بالدينار أو بالدولار ويقودها أو وقودها البترول. ومما زاد الطين بلة تخاذل أو تواطوء الجيش الذي ائتمنته الثورة أن يقود المرحلة الانتقالية حتى يتم وضع دستور قانوني عادل لجميع أبناء الوطن تتبعه انتخابات في جو نقي مستقر ....فخان الثورة وقام ببيعها بتراخيه في معالجة مشاكل الوطن والمواطنين وعقد صفقات خبيثة مع فلول النظام البائد الفاسد والعصابات الدينية الضارية وومخططات دول خارجية (السعودية وأمريكا) فكان عائقاً مسلحاً يمنع وصول الثورة إلى أهدافها المأمولة.
أما عن الحل... فلا أراه إلا في أن تبدأ الثورة بشبابها الأحرار في اختيار قائد خبير نزيه وأجنحة مخلصة تساعده على المسير في مقدمة الشباب الحر والتحدث باسم مصر الشابة المهضومة المتشوقة للحرية والمدنية والأمن والشرف. فلكل ثورة قائد. ولا اكتمال لثورة بلا قائد.
مطلوب قائد مخلص وطني عقلاني علماني مدني للثورة.

 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع

جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com