بقلم / زهير دعيم
في الثلاثين من تشرين الأوّل ، وقبل تسعين سنة، زمجرت صرخة طفل هادرة في قرية تعيش البيئة البكر، وتتمطّى فوق جبل لبنان الخلاب بهوائه النقيّ وطبيعته البتول ...في ضيعة تُدعى "نيحا الشّوف".
ولم يعرف أحدٌ وقتها أنّ هذه الصرخة ستكون وسام مجد على صدر نيحا الشوف ولبنان برمته وبلدان العرب والشّرق، ولم يدرِالناس أنّ ربّة الموسيقا قد بخّرت هذا المولود وطبعت على جبينه قبلة الخلود والمجد.
لم يدرِ أهل نيحا أنّ الآتي من رحم الوجود سيصفّق له عبد الوهاب قائلا: " انّه أجمل صوت في الشّرق".ولم يتخيّلوا أن رياض السنباطي الملحّن المجيد سيذهب أبعد من عبد الوهاب في وصف هذه المعجزة الفنيّة الفريدة: " لا أتصوّر أنّ في تاريخ الغناء كلّه صوتًا بهذه الروعة وهذا الجمال ، وهذه القدرة العالية على الأداء".
ولم يدرِ أحدٌ أنّ صاحب هذه الصرخة الآتية من بيت فقير سيشكّل منعطفًا في أساليب الغناء العربيّ ، وسيُطعّم الفنّ بلآلىءالآهات وكريستال العتابا والاوف وعَ الَلوما.
لم يدرِ أحد في تلك الضيعة الضائعة العذراء أنّ القادم من بيت فرنسيس سيكون مدرسةً غنائيّة تضع بصماتها بقوة وعنفوان على كلّ مطرّبي الأجيال ، وستبقى هذه البصمات ماثلةً للعيان مهمّا مرّت الأيام والسّنون.
هل هناك بعد لم يهتدِ الى بيت القصيد وصاحب الصوت الشّامخ والأداء المُتميِّز والضحكة الأخّاذة.
إنّه الصافي وديع ؛ صاحب الصوت الفريد ، المُركّب من هدير الشلال وشدو البلبل وهمسة النُسيمات وسقسقة الحسّون ونغمة الناي الحزين والوتر الجريح .
إنّه صاحب العتابا التي تأخذك بعيدًا الى التراث وتغور في مكامن النفس فتُفرحها تارة وتُشجيها أخرى ، وتطير بها على سحاب المجد ثالثة.
إنّه صاحب اللحن البديع واللفتة الحيّية والعطاء غير المنقطع.
...إنّه يعطي من قلبه ، والمعطي من قلبه يسحرك ويفتنك ويسرق منك الآه عنوةً ورغمًا عنك.
الصّافي ؛ والذي ما زال وهو في التسعين يقف في محراب الربّ في ترنيمة هنا ودويو هناك، فتراه نسرًا عتيقًا جدّد شبابه.، ففي صوته ورغم السنين الطوال عَبَق العنفوان ونبيذ الأصالة ووهج التحدّي.
في صوته ورغم السنين شيء لا أدرك كنهه، يجعلك تفرح وتُصفّق وتطرب .
أحببته في أغانيه العابقة كلّها ورددت معه : " ولو " " الله يرضى عليك يا ابني" " وأنا وهالبير " "غابت الشمس" وعشرات السيمفونيات الراقصة والهازجة ، القافزة ، الوثّابة ، والعتابا التي تفتّ في روحك فتسري بردًا وسلامًا.
رأيته بالأمس في برنامج " ديو المشاهير " وهو يغنّي ويضحك ضحكته المعهودة وكلمات المجاملة الخلوقة : " الله يخلّيكوا".
في التسعين وما زال نسرًا ، يصول ويجول ويحلّق بصوته وأخلاقه وفنّه، يحلّق من علٍ، والقمة لا يصلها إلا القلائل ، وصلها وتربّع هناك وأبت ان تدعه ينزل ...لقد افردت له مكانًا عند جبل صنين، وقريبًا من غيمات ليليكيات تغازل القمر ليلا والشمس نهارًا...
لم اتمالك نفسي وصفقّت له .. وصليت.. أن يحميه ذاك الذي احبّه حتى المنتهى ومات لاجله.
ان يرعاه ساكن العرش العظيم ويطيل من عمره حتى نتمتّع اكثر واكثر بالاصالة ونتذوق الفنّ الأصيل..ونعيش لبنان المحبة ، لبنان الذي دافع عنه ، ومدحه، وغنّاه.
من قال أن مغارة جعيتا هي من العجائب السبع فقد اخطأ ولم يصب كبد الحقيقة ، فالاعجوبة هي الصافي ، والاعجوبة هي فيروز ...
ارتاح لهذا الرجل كما ارتاح الى ربّه الرائع.. وارتاح الى هذه الفيروزجة ارتياحًا لا يستطيع ان يصفه قلمي..
لبنان لم يعطنا جبران فحسب بل اعطانا فيروز والرومي والعشرات من مواكب العباقرة..
واعطانا الصافي صافيًا يملأ آبارنا ماءً زلالا.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com