بقلم يوسف سيدهم
كتبت الأسبوع الماضي متفهما ومؤيدا لقرار تفعيل حالة الطوارئ- بعكس ما عبر عنه الكثيرون إزاء رفض ذلك- لأني أثق أن القرار يستهدف سلطات استثنائية مؤقتة لتعقب الانفلات الإجرامي الذي توحش في مدننا وشوارعنا متخذا صورا مرعبة من البلطجة والعنف وترويع المواطنين وتهديدهم, وفي نفس الوقت أثق أن شهية السلطة ليست مفتوحة علي التربص بأصحاب الرأي والمعارضين طالما أنهم لا يهددون أمن وسلام المجتمع ولا يحرضون علي الانفلات والجريمة.
لكني هذا الأسبوع أكتب غير متفهم وغير مؤيد للهجمة الشرسة المندفعة التي أطلقتها السلطات المدنية والأمنية علي جحافل الباعة الجائلين المنتشرين في الميادين والشوارع في القاهرة والذين أعترف أنهم انتشروا بشكل سرطاني بعد الثورة وخاصة في رمضان الماضي وأيام عيد الفطر, واعتقد الكافة أنهم جاءوا وتمركزوا بسبب موسم العيد وأنهم ما يلبثون أن يرحلوا لكنهم لم يتركوا أماكنهم واستمروا يمارسون تجارتهم غير المشروعة ويدعمون أماكن تمركزهم يوما بعد يوم.
أعرف كل ذلك وألمسه بشكل مباشر بحكم ترددي شبه اليومي علي وسط القاهرة بميادينها وشوارعها وأزقتها...والحقيقة أن ظاهرة الباعة الجائلين ليست جديدة علي وسط القاهرة-وربما سائر المناطق التجارية ذات الحركة الشرائية الكثيفة في مختلف أحياء العاصمة- وقد ألف المترددون علي هذه المناطق الحملات التي كانت تقودها شرطة المرافق بين الحين والآخر لتطهيرها من الباعة الجائلين, وكان الناس ينقسمون بين فريق مؤيد لتلك الحملات يري أنها ضرورية- لاستتباب النظام والأمن وكفالة السيولة المرورية وحرية حركة المشاة وحماية للمصالح التجارية لأصحاب المحلات الشرعية المرخصة, وبين فريق ثان معارض للحملات لأنه يري بالرغم من أهدافها المشروعة سلوكيات أمنية بوليسية قصيرة النظر تعالج تقاعس الشرطة وعدم يقظتها اللذين يسمحان للباعة الجائلين بالظهور مرة تلو أخري بشن هجمات مباغتة بربرية تطيح بهم وبيبضاعتهم وتعاملهم بطريقة وحشية دون أن تقدم لهم البديل الحضاري الذي يضمن الحفاظ علي مصادر رزقهم ويؤمن تجارتهم, ولا أخجل أن أسجل أنني أنتمي إلي الفريق الثاني.
لقد عايشت وتابعت أكثر من مرة هذه الهجمات التي شنتها شرطة المرافق علي الباعة الجائلين وكيف يفاجأ المشاة دون سابق تنبيه أو إنذار بحركة هرج ومرج واندفاع أهوج للباعة الجائلين وصبيتهم حاملين ما استطاعوا جمعه من بضاعتهم في لحظات ومنطلقين بها ليختبئوا داخل العمارات والطرقات والأزقة غير عابئين بما يتناثر علي الأرض من البضاعة...فقد جاءهم إنذار صاعق من مرشديهم المتمركزين في أماكن محددة يعرفونها بأن شرطة المرافق قادمة...وعقب ذلك تظهر سيارات شرطة المرافق-وهي سيارات مكشوفة-ويري المارة صندوقها الخلفي مكدسا ببضائع الباعة الجائلين الذين فشلوا في الهرب وقد ألقيت علي عجل وبلا اكتراث في فوضي عارمة-الملابس مختلطة بالأدوات والأجهزة والأحذية وحتي الأطعمة- وكان المشهد يثير في نفسي الشفقة علي أولئك الباعة والخراب الذي حاق بأرزاقهم وبضاعتهم وفي نفس الوقت الحنق علي بطش وصلف الشرطة التي تتخذ من الذود عن القانون شعارا للتربص بالمواطنين والتنكيل بهم بلا رحمة.
وكنت كل مرة أتساءل: ماذا يحدث لأولئك الذين يفشلون في الهرب ويقعون ضحية إعصار شرطة المرافق؟...أتصور أنهم كانوا يعاملون أسوأ معاملة وتحرر لهم المحاضر بمخالفة القانون ومزاولة مهنة تجارية دون تراخيص وتعطيل المرور وإشغال الطرق...إلي آخر هذه السلسلة من التهمم التي تسفر عن اعتقالهم وعرضهم علي النيابة ومصادرة بضاعتهم...لكن الواقع كان يشهد بأن من أفلتوا من براثن شرطة المرافق ما يلبثون أن يعودوا بعد بضعة أيام حاملين بضائعهم ومحتلين ذات الأماكن فوق الأرصفة وفي الشوارع والميادين ليزاولوا تجارتهم...وبالقطع كان ينضم إليهم لاحقا من قامت شرطة المرافق بإلقاء القبض عليهم بعد أن يتم إخلاء سبيلهم...وكان الأمر برمته أشبه بلعبة القط والفئران فطالما القط يغط في نوم عميق أو يغض النظر عن مراقبة الفئران تعود الفئران لترتع في المكان إلي أن يهب القط وتجري الفئران...وهكذا دواليك سارت اللعبة بين شرطة المرافق والباعة الجائلين!!!
ألم يتبادر إلي ذهن العقلاء في السلطة المدنية والأمنية أن وضع حد لهذا الكر والفر لن يكون بتكرار ذلك السيناريو الساذج؟....ألم يفطن أحد إلي حتمية إيجاد حلول أخري غير الإطاحة بالباعة الجائلين وقطع أرزاقهم؟...ألم يحذر أي خبراء من مغبة تلك السياسات التي من شأنها إخراج الباعة الجائلين من الخدمة وإدخالهم عنوة إلي جحافل المجرمين والبلطجية وقطاع الطرق ومحترفي الجريمة؟...هل يتصور عاقل أن قطع أرزاق هؤلاء مهما كان مسلكهم مجافيا للقانون دون تقديم بديل مشروع لهم يكتسبون منه رزقهم حتما سيلقي بهم إلي العنف والجريمة لطلب الرزق وللانتقام من المجتمع والسلطة اللذين تنكرا لهم ونكلا بهم؟...الحقيقة أن تصريح محافظ القاهرة عقب نجاح الهجمة العنترية التي قامت بها الشرطة علي ميادين وشوارع العاصمة استفزني أيما استفزاز حين قال:لسنا ضدهم ولكننا نرفض العشوائية وسوف نعمل علي إنشاء أسواق بديلة...!! أيمكن للمحافظ أن يبارك الإطاحة المجنونة بأرزاق الباعة الجائلين قبل أن ينشئ لهم أسواقا بديلة؟...هل هذا معقول أو مفهوم أو مبرر؟...وما درجة الاستعجال في الإطاحة بهم والنتيجة الحتمية ماثلة أمامنا جميعا, وهي إنتاج المزيد من البلطجية وقطاع الطرق والمجرمين!!.
لم أكن أتصور أن تفعيل حالة الطوارئ سوف يمتد إلي ملاحقة الباعة الجائلين الذين ستحولهم الدولة بسلوكها الأرعن إلي بلطجية وقطاع طرق ومجرمين!!!
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com