بقلم:د.عبدالخالق حسين
مقدمة
نقرأ ونسمع الكثير عن الفساد الإداري والمالي في العراق الجديد، وقد بلغ حداً إلى أن صار قضية سياسية، اتخذتها القوى السياسية المتنافسة ذريعة لشن الهجوم على الحكومة، بل وحتى المطالبة بإسقاطها. لذا فالسؤال الذي يطرح نفسه ونحن نناقش الأزمة العراقية هو: من المسؤول عن تفشي الفساد في مفاصل الدولة؟ وهل من حل؟
والمشكلة، أن الفساد لا يقتصر على الموظفين الصغار في دوائر الدولة، بل ويشمل أعلى المستويات مثل الوزراء. فإذا كان الفساد في دوائر الدولة يقوم على شكل مطالبة الموظفين الحكوميين للمراجعين بدفع رشا لهم مقابل تمشية معاملاتهم، فعلى مستوى الوزراء والمدراء العامين يتم هذا الفساد على شكل صفقات مالية كبيرة مع الشركات الأجنبية لتنفيذ مشاريع كبرى في العراق، أو حتى مع شركات وهمية أو مفلسة وبمختلف الوسائل والأساليب الشيطانية، كما حصل في حالة حازم الشعلان، وزير الدفاع، وأيهم السامرائي وزير الكهرباء في حكومة أياد علاوي الانتقالية، حيث سرق الأول 800 مليون دولار، والثاني 300 مليون دولار، وهما فارين عن وجه العدالة الآن. ولا نعرف عن البقية سوى الإشاعات وليست بالضرورة صحيحة، لأن في هذه الحالات يتم حرق الأخضر بسعر اليابس، وسنوضح ذلك لاحقاً.
الفساد في الأنظمة الديمقراطية
ينقل عن رئيس الوزراء البريطاني الراحل، ونستون تشرتشل قوله: "أن الحكومة الديمقراطية هي ليست مثالية، ولكن المشكلة أنه لحد الآن لا توجد حكومة أفضل من الحكومة الديمقراطية". والدليل على ذلك، أننا نسمع بين حين وآخر عن فضيحة فساد لسياسي، أو مجموعة من السياسيين في دولة، أو دول ديمقراطية عريقة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فضيحة عدد من أعضاء مجلس النواب البريطاني قبل عامين، حيث حُكِمَ عدد منهم بالسجن لفترات مختلفة، وأرغم آخرون على إعادة الأموال التي أخذوها دون وجه حق. كذلك سمعنا عن فساد ضباط كبار في الشرطة البريطانية (سكوتلاند يارد) لقبولهم الرشوة مقابل بيع معلومات سرية عن شخصيات مهمة إلى صحف روبرت مردوخ في فضيحة عمليات التنصت المعروفة، والتي كلفت البعض منهم مناصبهم الرفيعة، كما وكلفت مردوخ دفع مبالغ ضخمة للضحايا قدرت بمجموعها نحو مائة مليون جنيه إسترليني. وكذلك أعلن القضاء الفرنسي هذا العام عن محاكمة الرئيس السابق، جاك شيراك، بتهمتَيْ "اختلاس أموال عامة" و"سوء ائتمان" في قضية "توظيفات وهمية" عندما كان رئيسًا لبلدية باريس قبل أكثر من عشرين سنة.
ولكن المهم في الأنظمة الديمقراطية، أن هناك آليات تجعل بإمكان الناس والإعلام الحديث عن الفساد والفاسدين وفضحهم، وتقديمهم للمحاكم ومعاقبتهم إذا أدينوا، واسترجاع المبالغ منهم. أما في الأنظمة المستبدة الفاسدة، فكما قال اللرود أكتون: "السلطة تفسد، والسلطة المطلقة تفسد إفساداً مطلقاً"، لأن في هذه الأنظمة ليس بإمكان أحد أن يتحدث عن الفساد، وخاصة إذا كان الفاسد في موقع القوة، كما كان الوضع في العراق في العهد البائد.
أما في الهند، فقد سمعنا قبل أسابيع عن مظاهرات جماهيرية كبيرة في دلهي العاصمة ومناطق أخرى، بقيادة مواطن هندي يدعى (أنا هزاري)، الذي دعا لهذه التظاهرات وقام بالإضراب عن الطعام ضد الفساد. فالهند رغم أنها أكبر دولة ديمقراطية في العالم، لكن في نفس الوقت تعتبر موبوءة بالرشوة والفساد الإداري من القمة إلى القاعدة أكثر من أية دولة أخرى في العالم وبشكل علني، إلى درجة أن الإعلام وصف نضال الجماهير ضد الفساد هذه الأيام، والذي يقوده أنا هزاري، أنه لا يقل أهمية عن النضال الذي قاده المهاتما غاندي من أجل الاستقلال في الأربعينات من القرن الماضي. (تقارير إذاعة BBC World Service).
نفس الكلام يمكن قوله عن تفشي الفساد المالي والإداري في العراق بأنه لا يقل خطورة عن الإرهاب، لأنه يهدد بتدمير المجتمع.
أسباب الفساد في العراق
يعتبر الفساد ظاهرة عالمية ابتلت بها جميع الشعوب دون استثناء، كما ويُعتقد أنه جزء من طبيعة البشر مثل الطمع والجشع وحب التملك...الخ، إذ كما قال المتنبي:
"والظلم من شيم النفوس فإن تجد.... ذا عفة فلعلة لا يظلم".
أما في العراق، فبالإضافة إلى هذه الطبيعة الشريرة في الإنسان، هناك عدة عوامل ساهمت في تفشي الفساد بعد سقوط حكم البعث، وذلك كما يلي:
أولاً، الفساد كجزء من التركة الثقيلة التي ورثها العهد الجديد من العهد البائد، إذ نعرف أنه خلال 13 سنة من الحصار الذي أرهق العراقيين وأذلهم، حيث صار راتب الموظف يعادل أقل من دولارين شهرياً، سمح حكم البعث بما سمي في وقته: (تكريم الموظف من قبل المراجعين). وهذه "الإكرامية" صارت عادة مقبولة كحل لأزمة آنذاك. ومع الأسف الشديد، استمرت هذه العادة السيئة إلى العهد الجديد ورغم ما حصل من تحسن في رواتب الموظفين إلى مئات المرات عما كان عليها أيام العهد البائد. ولكن البعض من الناس يعانون من ضعف الذاكرة، فينسون بسرعة سيئات ذلك النظام الغاشم.
ثانياً، رغم ما أثير من صخب وضجيج حول قانون اجتثاث البعث في العراق، والذي تحول إلى قانون المساءلة والعدالة فيما بعد، فمن مجموع مليونين عضو في حزب البعث، تم فصل 25 ألف فقط، من عضو فرقة فما فوق. وهذا العدد يشكل نحو 1.5% من أعضاء الحزب. ولكن مع الأسف الشديد، عمل كثير من هؤلاء الذين بقوا في وظائفهم، على تشويه سمعة العهد الجديد لأغراض سياسية وبأوامر من فلول البعث، ليعطوا انطباعاً أن العهد الجديد فاسد، وليترحم الناس على عهد البعث والادعاء أنه كان نزيهاً!!
ثالثاً، أثبتت دراسات وتجارب بلدان حديثة العهد بالديمقراطية، أن الفساد لا بد وأن يتفشى على نطاق واسع في السنوات الأولى من النظام الديمقراطي، خاصة إذا ما طبقت الديمقراطية بسرعة وليس بالتدريج ودون تمهيد. ودول أوربا الشرقية (الاشتراكية سابقاً) أفضل مثال. فالديمقراطية لا تمتلك المناعة والحصانة ضد الفساد، ولكنها تمتلك آلية فضحه ومعالجته.
الفساد بين الحقيقة والإشاعة
نعم، هناك فساد متفشي لا شك فيه، ولكن، يجب أن لا نحرق الأخضر بسعر اليابس، ونوزع الاتهامات كيفما اتفق. ففي عصر الخديعة والإشاعة، والتكنولوجية المتطورة، يسهل تلفيق التقارير والوثائق المزيفة وبث الإشاعات على أوسع نطاق ضد الأبرياء، أو المبالغة في حجم الفساد إن وجد. كذلك لاحظنا أن هناك الكثير من الناس معرضين لتصديق كل ما يقرؤون ويسمعون، والعمل على تعميمه، دون إعمال عقولهم في التمييز بين الحقيقة والزيف، خاصة وهناك صراع سياسي عنيف بين القوى السياسية المتنافسة على السلطة، كل واحدة منها تحاول تصفية منافستها بكيل الاتهامات وبث الإشاعات بشن حملة تشويه سمعة (smear campaign). وقد بلغ الأمر حداً أن لجأ البعض، مثل السيد أياد علاوي، زعيم قائمة "العراقية"، إلى استئجار شركات العلاقات العامة (PR) في أمريكا، ونشر مقالات في الصحف هناك، ودفع مبالغ ضخمة لها لتشويه صورة الخصم (نوري المالكي)، وتزويق صورته، وتسويق نفسه إلى الأمريكان بأنه هو الشخص المناسب لرئاسة الحكومة العراقية.
ولم يسلم من هذه الافتراءات حتى المرجع الشيعي الأكبر، آية الله السيستاني، والادعاء بأنه استلم 200 مليون دولار من دونالد رامسفيلد مقابل سكوته عن الغزو الأمريكي للعراق، وقد بلغ بهم الصلف أن زيفوا وثائق مصورة تحمل توقيع السيد يعترف فيها أنه استلم هذا المبلغ!!.
أو تقوم الصحافة بمحاكمة المتهم بالفساد وتغتاله سياسياً بدلاً من محاسبته في المحاكم القضائية المختصة. وإذا ما أصدر القاضي حكماً ببراءة المتهم، اتهموا القاضي بأنه مسيَّس، وأنه أذعن لضغوط السياسيين وخان القضاء، كما حصل في حالة السيد فلاح السوداني، وزير التجارة السابق الذي قيل الكثير ضده في هذا الخصوص وبرأته المحكمة.
ففي الدول الديمقراطية الناضجة يقوم المفترىَ عليه بمقاضاة الإعلام، وإذا ما أثبت براءته في المحاكم ويعاقب المفترون. ولذلك، وفي هذه الأجواء الموبوءة، من حقنا أن نشك في مصداقية معظم التهم الموجهة ضد هذه الجهة أو تلك، ما لم تثبت في المحاكم.
والمشكلة أنه عندما نحذر من هذه الافتراءات، تنهال علينا الشتائم والاتهامات من المؤدلجين بأننا تخلينا عن علمانيتنا وصرنا ندافع عن الحكومة!!. نقول لهؤلاء السادة، أن من واجب المثقف أن لا يصدق كل ما يسمع ويقرأ إلا بعد تمحيصه بحيادية، ليعرف الحق من الباطل، وإلا ساهمنا في تضليل الناس، فحبل الكذب قصير.
ما الحل؟
كما في حالة المحاصصة، كذلك في حالة الفساد، لا يوجد حل سحري وسريع. إذ كما ذكرنا في مقالات سابقة، أن حزب البعث عمل خلال 35 سنة من حكمه الجائر، على تدمير النسيج الاجتماعي، وزرع سلوكيات غريبة عن أخلاقية المجتمع، ودمر روح المسؤولية لدى شريحة واسعة من الناس. لذلك فالمشكلة أكبر من شخصنتها وتلبيسها على شخص واحد وضعته الأقدار في قمة المسؤولية، ولا يمكن حلها عن طريق كيل الأكاذيب والافتراءات.
إن مجتمعاً ينتج أربعة ملايين موظف مرتشي، بحيث تخرج مظاهرة يشارك فيها 50 ألف في بغداد وحدها يدافعون علناً عن تزوير الشهادات، لا بد وأن يكون هذا المجتمع يعاني من خلل خطير، ويحتاج إلى دراسة وعلاج من قبل علماء الاجتماع.
كذلك أعتقد أنه لا يحق للمرء الإدعاء بالنزاهة ما لم يكن بالسلطة، إذ كما قال فولتير: "إذا تريد أن تعرف حقيقة الإنسان، امنحه سلطة ومال". لذلك، فإني أشك في نوايا البعض ممن اتخذوا من الفساد ذريعة لتهييج الجماهير، وتنظيم التظاهرات، والتهديد بإسقاط الحكومة بحجة الفساد. فهذه الدعوات مشبوهة وراءها أغراض سياسية.
ومن كل ما تقدم، أعتقد أن معالجة الفساد تحتاج إلى زمن، وإلى تضافر جهود كل الخيرين من أبناء شعبنا، واتخاذ إجراءات رادعة ضد الفاسدين. يجب البدء من البرلمان بإصدار قوانين صارمة لمحاربة الرشوة، وإنزال أشد العقوبات بالفاسدين والمفسدين، وشن حملة ثقافية واسعة تشترك فيها وسائل الإعلام، ووضع آليات مراقبة شديدة من قبل الأفراد، ومنظمات المجتمع المدني، والحكومة لمراقبة الموظفين في الدولة، وفضح ومحاسبة من تثبت عليه التهمة.
كذلك دور المراجعين أنفسهم لدوائر الدولة في مقاومة الفساد، إذ هناك حديث نبوي: "لعن الله الراشي والمرتشي". فعلى المواطن المراجع الذي يطالبه الموظف بدفع رشوة أن لا يسكت، بل يحاول قدر الإمكان فضح الموظف المرتشي في الصحافة وتقديم شكوى إلى المسؤولين. ويمكن وضع كاميرات خفية في الدوائر، أو حتى إرسال ناس بهيئة مراجعين مزودين بكاميرات خفية، كما يجري في بريطانيا وغيرها في الكشف عن الفاسدين وفضحهم في وسائل الإعلام. ولا شك أن هناك وسائل أخرى يمكن إتباعها لمحاربة الفساد.
وبدون هذه الإجراءات والوسائل سيبقى الفساد مستشرياً يهدد السلام الاجتماعي كما الإرهاب.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com