بقلم:د. عبدالخالق حسين
توضيح لا بد منه
قبل أسابيع استلمت دعوة كريمة من أصدقاء أعزاء في بلد أوربي للمشاركة في لقاء فكري حول القضية العراقية، وتركوا لي حق اختيار المادة أو المواد لمداخلتي مع إعطائي الوقت الكافي لمناقشتها من قبل الجمهور الكريم. ونتيجة لاهتمامي بالأزمة العراقية المثيرة للجدل والاختلاف، والتي دوَّخت السياسيين والمعلقين وعلماء الاجتماع في مختلف أنحاء العالم، رأيت من المفيد أن أختار هذا المحور (الأزمة العراقية) بكل تفرعاته، وتشابكاته، وتعقيداته، والمرور عليها بإيجاز، ومن ثم فسح المجال لمشاركة الحضور الكرام بالمشاركة في السجال.
ولتحقيق هذا الغرض، وضعت مجموعة من الأسئلة التي تشغل بال معظم المثقفين العراقيين وغيرهم، لتدور حولها مداخلتي على شكل إجابات عليها، وعرضتها على الأخوة منظمي اللقاء، فاستحسنوا الفكرة، ورحبوا بها مشكورين. ولكن في النهاية، ولأسباب صحية، مع الأسف، تعذرت مشاركتي، لذلك رأيت من المفيد أن أحيل ما كنت أنوي إلقاءه في الندوة، إلى مقالات أجيب فيها على تلك التساؤلات التي اقترحتها وهي كالآتي:
1- ما هي الأزمة العراقية تحديداً؟ ومن المسؤول عنها" وكيف نشأت؟
2- لماذا لم يقم الشعب العراقي بتحرير نفسه بنفسه من الحكم الفاشي كما فعل الشعبان: التونسي والمصري مثلاً، وأخيراً انتصار الثورة الليبية، فاحتاج العراق إلى الغزو الخارجي بقيادة أمريكا، وما نجم عن ذلك من عواقب وخيمة؟
3- لماذا قامت أمريكا بتفكيك الدولة العراقية؟
4- لماذا تم حل الجيش العراقي بعد إسقاط حكم البعث؟
5- لماذا اشتعل الصراع الطائفي بعد سقوط حكم البعث؟ وهل أمريكا هي التي جلبت لنا هذا الاقتتال على الهوية الطائفية؟
6- لماذا حكومة المحاصصة الطائفية والعرقية؟
7- لماذا تفشي الفساد في مفاصل الدولة؟ ومن المسؤول عنه؟ وما حل؟
8- هل حقاً العراق دولة فاشلة؟
9- هل النظام الحالي هو نظام ديمقراطي؟
11- وهل ما تحقق بعد إسقاط حكم البعث يستحق كل هذه التضحيات التي دفعها الشعب العراقي من أرواح أبنائه؟ أما كان الأفضل الانتظار إلى أن يسقط حكم البعث من الداخل بطريقة وأخرى، كما حصل في بعض البلدان العربية؟
12- وأخيراً، ما هو مستقبل الديمقراطية في العراق؟
سأخصص مقالاً لكل سؤال من هذه الأسئلة أعلاه، رغم أني (وزملاء آخرين) ناقشت هذه الأمور في مقالات سابقة، ولكني أرى من المفيد العودة إليها على ضوء ما حصل من تطورات ومستجدات على أثر ثورات الربيع العربي.
كما وأود التوكيد، أني لا أدعي امتلاك الحقيقة، ولا أني أضمن إقناع كل من يختلف معي حول هذه الأمور المثيرة للجدل والاختلاف، فنحن نختلف في كثير من الأمور، وبالأخص فيما يتعلق بالأزمة العراقية الراهنة، ناهيك عن أصحاب الأيديولوجيات الشمولية الذين لا يفكرون إلا من داخل الصندوق الأيديولوجي، فيعتبرون كل ما لا يناسب مساطر أيديولوجياتهم هو خطأ، وتهمة العمالة والخيانة جاهزة. إضافة إلى الجدار الطائفي العازل، والصراعات المزمنة التي خلقت أزمة الثقة بين مكونات الشعب، ونظرية المؤامرة، لذا فمن الصعوبة تغيير مواقف هؤلاء بمقال أو مقالات، ومهما جهد الكاتب اعتماد المنطق والحقائق التاريخية لإثبات وجهات نظره. ولكن مع ذلك أعتقد أن المسألة تستحق المحاولة، لا لإقناع المتخندقين بكهوف الأيديولوجية، بل لمناقشة الأزمة وتشابكاتها، وطرح وجهات نظر مغايرة، ولإطلاع جمهور القراء على هذه الآراء، وترك المجال لهم للأخذ بها أو رفضها، وخاصة الجمهرة الواسعة من الناس المحايدين، والمستعدين لمقابلة الأفكار بعقل متفتح، والباحثين عن إجابات عقلانية ومنطقية، لمواجهة حملة التضليل والتشويش.
وفي هذا المقال أبدأ الإجابة على السؤال الأول، وهو:
ما هي الأزمة العراقية تحديداً؟ ومن المسؤول عنها؟ وكيف نشأت؟
بإيجاز شديد، تتمثل الأزمة العراقية في تشظي القوى السياسية، وهاجس الخوف والشك والريبة بين القيادات السياسية، وتصارعها على المناصب والنفوذ والثروة، إضافة إلى الإرهاب وتفشي الفساد وتكالب دول الجوار لإفشال العملية السياسة بمختلف الوسائل. ففي الانتخابات التشريعية الأخيرة تقدم آلاف المرشحين عن أكثر من 600 كيان سياسي، وهذا الكم الهائل من التنظيمات السياسية تعطي فكرة واضحة عن هذا التشظي الذي بدوره يعكس التعددية المفرطة في مكونات الشعب العراقي، الأثنية والدينية والمذهبية.
لقد تعرض الشعب لمظالم رهيبة لقرون طويلة، وبالأخص خلال فترة حكم البعث الفاشي. فمنذ إسقاط هذا الحكم الجائر، يواجه العراق آلام مخاض عسير لولادة دولته العصرية، دولة المواطنة والقانون والديمقراطية، تناسب طموحات وتطلعات الشعب، انسجاماً مع متطلبات القرن الحادي والعشرين، و العولمة، ولمواكبة الحضارة الحديثة، والتعويض عما فاته في العهد البائد، واللحاق بالشعوب المتقدمة، والتعايش السلمي معها.
فخلال 35 سنة من حكمه الجائر، حاول حزب البعث إخضاع هذا الشعب لإرادته بشتى وسائل التضليل والقمع والقهر والإذلال، بتغيير تركيبته السكانية، وثقافته الاجتماعية، وتفتيت نسيجه الاجتماعي، وإحياء القبلية والطائفية، والتجهيل المتعمد، وتجويعه وإذلاله، وتخريب أخلاقية الناس وجعلهم متعادين فيما بينهم ومع العالم، وبالأخص الشعوب المجاورة. كما وعمل البعث على تدمير ثقة الإنسان العراقي بنفسه وبوطنه ومستقبله، والقضاء على روح الوطنية فيه، وقولبته مع أيديولوجية الحزب، ودفعه إلى اليأس من أي خلاص، والاعتقاد بأن لا مفر للعراقيين إلا بالتكيف مع حكم البعث والإذعان له، وأن هذا مصيرهم الأبدي كالقدر المكتوب!.
لذلك، وبعد خلاصه من النظام الجائر، انفجر الوضع كالبركان الهادر، وصار من الصعب السيطرة عليه. لذا فالعراق الآن في ملتقى الطرق، وهو يواجه تراكمات ومخلفات الماضي بثقله الرهيب، فإما إلى التمزق والفناء الذي توعد به صدام حسين العراقيين بقوله: (أن الذي يحكم العراق من بعده يستلمه أرضاً بلا شعب)، أو كما يريد أحرار وأخيار العراق أن يكون بلدهم منارة للديمقراطية والاستقرار والازدهار الاقتصادي في المنطقة. ولذلك فالصراع الآن محتدم على أشده بين معسكرين متعاديين، معسكر الوطنيين الأحرار الأخيار الذين يناضلون من أجل إنجاح العملية السياسية وترسيخ الديمقراطية الوليدة، ومعسكر العبيد الأشرار الذين أدمنوا على العبودية، فراحوا يعملون لإفشالها وإعادة العراق إلى ما قبل 2003.
والجدير بالذكر، أن الأزمة أو الأزمات العراقية هي ليست وليدة اليوم أو بعد إسقاط حكم البعث الفاشي، بل هي نتاج التاريخ والجغرافية، حيث ساعد موقع العراق الجغرافي، وما يتمتع به من مناخ معتدل، وثروات طبيعية، وأنهار ومياه، ساعد على اجتذاب الموجات البشرية من كل الجهات وفي مختلف العصور، والاستيطان على أرضه المعطاءة منذ آلاف السنين، فصار بلاد الرافدين مهداً للحضارة البشرية، ومهبطاً للأنبياء والأديان، ومنبعاً للمذاهب الدينية، والمدارس الفكرية المختلفة. وبذلك امتاز هذا الشعب بتعددية مكوناته الأثنية والدينية واللغوية والثقافية أكثر من أية بلاد أخرى.
ولعل من يسأل: وهل العراق هو البلد الوحيد الذي يتكون شعبه من تعددية قومية ودينية ومذهبية؟ إذ نادراً ما نجد في العالم شعباً متجانساً مؤلفاً من قومية واحدة وديانة واحدة، ولكن مع ذلك تعيش هذه الشعوب بسلام؟
والجواب هو: نعم، معظم الشعوب، وخاصة في الغرب تعيش بسلام رغم تعددية مكوناتها، بل وهناك مقولة تؤكد ذلك، تفيد أن (الوحدة في التعددية unity in diversity)، فلماذا أدت تعددية مكونات الشعب العراقي إلى الفرقة والصراع الدموي؟
إن مقولة (الوحدة في التعددية) صحيحة فقط في حالة وجود حكم عادل لا يميز بين مكونات الشعب. أما إذا كان الحكم يفرض التمييز العرقي والطائفي، ويفضل مكونة على أخرى، فإنه لا بد وأن يعتمد على مبدأ "فرق تسد"، وتحريض جماعة على أخرى، وبذلك يؤدي إلى زرع الفرقة والعداء والفتنة بين مكونات الشعب الواحد. وعند سقوط نظام القهر والقمع، وقيام نظام ديمقراطي، يسمح للجميع بالمطالبة بالحقوق، فالكل يصرخ "أين حقي".
فبعد تأسيس دولة المواطنة والديمقراطية، ومعاملة الجميع بالتساوي، ومعاملة الجميع كمواطنين من الدرجة الأولى بلا تمييز، تحصل صراعات عنيفة في أول الأمر، وذلك بسبب تركة الماضي الثقيلة، وخاصة أزمة الثقة بين مكونات الشعب، وضعف الدولة الجديدة، وضعف حكم القانون، ونقص التجربة من قبل القادة السياسيين الجدد، فكل مكونة تستغل الفرصة، وتريد تحقيق أكبر قدر ممكن من المكتسبات لنفسها على حساب المكونات الأخرى، حتى لو تطلب الأمر الإستقواء بدول الجوار التي من مصلحتها تأليب مكونة على أخرى لإفشال التجربة. لذلك برزت حالة شاذة غير معهودة من الصراعات.. ولكن مع الزمن، تخف هذه الصراعات، وتهدأ النفوس، وتعود الثقة فيما بينها ويحصل الاستقرار. فهذه الأزمة مهما طالت، لا بد وأن تزول، إذ كل الشعوب المتحضرة مرت بها في بدايات تجاربها مع الديمقراطية، ولكن في نهاية المطاف نجحت الديمقراطية واعتادت عليها، وصارت جزءً من تقاليدها.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com