بقلم : القس نصر الله زكريا
في كتابه "المفهوم اللاهوتي للثورة" يقدِّم الكاتب القس نصرالله زكريا شرحاً وتفسيراً لمعنى كلمة "الثورة" معتمداً على الكتاب المقدس وانطلاقاً منه، وتأكيداً على أهميّة دورنا –كمسيحيين- في هذه المرحلة الحرجة في حياتنا.والكتاب، بحسب التقديم الذي كتبه المهندس فؤاد يوسف "يعتبر مرجعاً شاملاً لدراسة متعمقة في مجال الثقافة السياسيّة كما أنه يغطي الأحداث الحاليّة وتأثيرها على مستقبل أمتنا العربيّة."
ففي الفصل الأول من الكتاب، يقدِّم الكاتب تعريفا لمجموعة من المصطلحات مثل الاحتجاج، والشغب، والعصيان، والاضراب، والانقلاب، والانتفاضة، وأخيراً الثورة.....وعن الثورة يقول الكاتب إنها "الثورة هي التغيير الذي يحدثه الشعب من خلال أدواته من خلال شخصيات تاريخيّة مثلا لتحقيق طموحاته لتغيير نظام الحكم العاجز عن تلبيّة هذه الطموحات ولتنفيذ برنامج من المنجزات الثوريّة غير الاعتياديّة.... والثورة بمعناها السياسي تعبير يدل على العمل العنيف بهدف إحداث تغيير جذري في نظام الحكم والنظام الاجتماعي القائمين،
وتحقيق تبديل أساسي في العلاقات بين الطبقات على أثر تحطيم البنيّة الفوقيّة للمجتمع، وإلغاء سيطرة الطبقات العليا، وتكريس سيطرة الطبقات المقهورة الواقعة تحتها، وإحلال نظام جديد محل النظام القديم.... وعليه فالثورة بمعناها السياسي هي تعبير ذو أبعاد سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة واسعة. والثورة بهذا المنظور هي رفض لقهر لا يمكن احتماله سواء كان هذا القهر اقتصادياً أم سياسياً أم اجتماعياً أم وطنياً، وتجسيد هذا الرفض بالعمل الجماهيري المباشر والمنظم، في سبيل التخلص من القهر، وبناء حياة أفضل."
أما الفصل الثاني من الكتاب فيرصد للاحتجاجات والثورات التي حدثت ودُونت في الكتاب المقدس، ومنها ما جاء تحت مسمى "شغب" أو "تذمر" أو "سجس" أو "احتجاج" أو "فتنة" أو "عصيان" أو "مشاجرة". ويفرِّق الكاتب بين الاحتجاجات والثورات الدينيّة، والاحتجاجات والثورات السياسيّة في الكتاب المقدس. ثم يسجِّل الكتاب لشخصيات ثوريّة كتابيّة منها النبي ناثان يواجه الملك داود بأخطائه، والنبي إيليا الذي انتهر آخاب؛ الملك الظالم، ثم عرضا لخدمة يوحنا المعمدان الذي صار شهيداً للرأي، وآخر وأعظم الكل: المسيح ثائرا. وعن المسيح الثائر يقول الكاتب: "لقد انتقد المسيح السلطات الدينيّة والمتدينين، والأغنياء والارستقراطيين، وكانت له آراؤه في السياسة والاجتماع والاقتصاد، وهو لم يدعنا لأن نغلق عيوننا أو نصمّ أذاننا، أو نلجم ألسنتنا عندما نرى حقوق الإنسان تهدر وتغتصب، أو أن نرى الظلم في توزيع الثروة أو مباشرة الحقوق السياسيّة، بل يدعونا لأن نندمج في المجتمع ونشارك فيه، ونعمل على تحقيق الديمقراطيّة المجتمعيّة على أساس المساواة في حقوق الإنسان الذي خلقه الله ومنحه قيمة وشرفاً علينا جميعاً احترامه، وعلينا أن نقَّيم سياسات وتوجهات المجتمع ونشارك في صنعها بطريقة صحيحة وواضحة."
وفي الفصل الثالث يقدم الكاتب تأريخاً للثورات في التاريخ الكنسي مثل ثورة الأنطاكيين ضد الإمبراطور ثيودؤسيوس، ثورة الإصلاح الإنجيلي في أوربا، ثم ثورة الشباب القبطي المصري ضد البابا يوساب الثاني، ثورة كنيسة رومانيا ضد شاوشيسكو. وعنها يكتب زكريا
"لعبت الكنيسة الإنجيليّة المُصلحة في رومانيا دوراً بارزاً في ثورة شعب رومانيا ضد الديكتاتور نيكولاي شاوشيسكو الذي حكم البلاد بقبضة من حديد، واتسم حكمه بالشدة والدمويّة على الرغم من بعض الإنجازات في مجالات تنمويّة وعلميّة وثقافيّة، حتى قامت ضده ثورة شعبيّة طاغيّة عام 1989م، وقد أيدّ الجيش الشعب وانضم للثوار ضد الطاغيّة، فهرب شاوشيسكو مع زوجته، إلا إنه لوحق ثم حوكم في واحدة من أسرع المحاكمات لديكتاتور في القرن العشرين، حيث صدر الحكم عليه بالإعدام هو وزوجته ونُفذ الحكم أمام عدسات التلفزيون.
وتبدأ قصة الثورة الشعبيّة في رومانيا ضد الديكتاتور نيكولاي شاوشيسكو على خلفيّة قرار أصدره أحد أساقفة الكنيسة المصلحة في رومانيا بنقل القس لازلو توكس من الكنيسة المحليّة التي يخدم فيها إلى كنيسة أخرى، ولم يكن ذلك الإجراء إجراءً عاديًا. فقد انتقد توكس سياسة حكومة بلاده وعلى رأسها شاوشيسكو في تعاملها مع المجريين في رومانيا. وإذ تمتع توكس بمساندة ودعم شعب كنيسته، تحدى قرار الأسقف، واستمر في خدمته ورعايّة كنيسته، فلجأ الأسقف للسلطة المدنيّة لتنفيذ قراره، والتي رفضت في البدايّة أن تتدخل في شؤون الكنيسة، إلا أنها عادت في أكتوبر 1989 فأصدرت قرارها باستبعاد القس توكس، وبرغم التأييد الدولي الواسع النطاق لموقف القس توكس، ومحاولة أمين عام مجلس الكنائس العالمي إميل كاسترو، الذي قدَّم التماسًا للرئيس شاوشيسكو ليعمل على سلامة القس توكس وأسرته ويمكنّه من الاستمرار في خدمة شعب كنيسته، قرر أسقفا الكنيسة المصلحة في رومانيا، كلاهما، أن القس توكس بعصيانه للكنيسة والدولة معًا قد جرد نفسه من القسوسيّة!!.
ازداد التوتر، وحاول أربعة ملثمين في نوفمبر 1989 اغتيال القس توكس. ومن ثم اتخذت السلطات الرومانيّة قرارها بتحديد يوم 15 ديسمبر 1989م، كآخر موعد يغادر فيه توكس إما طواعيّة أو بالقوة. وعندما ذهبت قوات الشرطة صباح 16 ديسمبر لطرد القس توكس وإبعاده عن كنيسته تصدى لها عدة مئات من شعب تلك الكنيسة. وتحولت المواجهة إلى مظاهرة ضد الحكومة، وأطلق رجال الأمن النار على الجماهير وقتلوا عدة آلاف خلال يومين. وتفاقمت الأمور في تيميسورا –محل إقامة وخدمة القس توكس- حتى 20 ديسمبر. وظهرت موجات الاحتجاج في بوخارست العاصمة يوم 22 ديسمبر ورفض عدد كبير من قوات الجيش أن يطلقوا النار على الشعب، بل تعاطفوا مع الجماهير... وانتهى حكم الطاغيّة شاوشيسكو، وانطوت صفحة قاتمة السواد من تاريخ رومانيا".
في الفصل الرابع من الكتاب يعرض الكاتب للمدارس اللاهوتيّة التي تعالج تعريف "الثورة" فيكتب "المدرسة الأولى تدعو للانفصال التام والانعزال عن شؤون العالم والمجتمع، بل تتخذ موقف العداء للعالم والحرب ضده، حيث أن العالم شرير وفاسد، وعليه يجب الابتعاد عنه وعدم مخالطة أهله، وأساليبه وأدواته.....أما المدرسة الثانيّة، فهي لا تختلف كثيراً عن المدرسة السابقة، إلا أنها تدعو إلى الانفصال عن العالم دون إعلان الحرب ضده، مع تقديم رسالة الخلاص له.... وتأتي المدرسة الثالثة لتنادي بأهميّة الاندماج ومشاركة المجتمع، والعالم، في التغيير نحو الأفضل ونحو كل ما يرتقي بالإنسان، اجتماعياً وسياسياً ودينياً، وأصحاب هذا الفكر يؤمنون أن المؤمنين جزء من كيان هذا العالم المادي، وعليهم التفاعل مع مجتمعاتهم بهدف التغيير، وهم يعتمدون أيضاً على بعض مما جاء في الكتاب المقدس، فيما قاله المسيح لسائليه عن موقفه من دفع الضرائب، حين قال: "أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلَّهِ لِلَّهِ" (مرقس 12: 17).... وتعتمد هذه المدرسة على تأصيل فكرة ثنائيّة المواطن المسيحي، فالمسيحي يحيا مشدوداً نحو وطنه السماوي، لكنه وهو في طريقه نحو هذا الوطن، فهو ما زال يعيش في وطن أرضي، ووسط تكوين جماعي من بشر مختلفين لكنهم يجتمعون في إطار جغرافي وتاريخي وسياسي ومجتمعي، وهنا يبرز دور المواطن المسيحي في المشاركة في فعاليات تحقيق الأفضل لوطنه، والأفضل لمواطنيه، تحقيقاً لقول المسيح: "أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ" (يوحنا 10: 10).
ثم يقدم الكاتب –فيما تبقى من الفصل الرابع- أفكار اللاهوت المسيحي عن المساواة، والتحرير، وحريّة التعبير عن الرأي، وكذلك تقرير المصير، والمواطنة، ودعوة الكتاب المقدس لإرساء العدالة ومناهضة الظلم والقهر...الخ
أما الفصل الخامس فيحاول فيه الكاتب أن يقدم عرضاً متوازناً ل "موقف الكنيسة من الاحتجاجات والثورات"، فيجيب على أسئلة كثيراً ما أرّقت المسيحيين عامة، ورجال الدين منهم على وجه الخصوص، مثل: "ما هي علاقة الكنيسة بالدولة؟ هل يقتصر دور الكنيسة على الإطار الروحي فقط، أم أن للكنيسة دوراً مشاركاً في الحياة السياسيّة؟ من أي منطلق تستطيع الكنيسة تحديد موقفها من القضايا السياسيّة؟ وهل للكنيسة الحق في إبداء رأيها في قضايا السياسة؟ ما هي علاقة الكنيسة بالنظام السياسي القائم؟ أعلى الكنيسة أن تتخذ دائماً موقف الخضوع للحاكم والنظام السياسي؟ هل من الواجب الفصل بين الكنيسة والمواطن المسيحي إزاء الشأن السياسي؟ وهل للكنيسة الحق في توجيه أعضائها سياسياً؟ وهل للمسيحي الحق في ممارسة السياسة والتعاطي مع القضايا السياسيّة؟ وهل يحق لرجل الدين المشاركة في العمليّة السياسيّة وإبداء آرائه في موضوعات وقضايا السياسة من منطلق كونه مواطناً، أم أن وضعه كرجل دين يلزمه بالامتناع حتى من إبداء الرأي السياسي؟
يقول زكريا: " إن الكنيسة وهي تدرك طبيعتها المتمثلة في كونها كياناً روحياً، فإنها تدرك أيضاً دورها الحاسم في إرساء العدل ومناهضة الظلم والقهر والحفاظ على كرامة الإنسان، والكنيسة في العرف الديني والمجتمعي هي مجموع أعضائها، وهنا يبدو للناظرين أن الكنيسة تمارس دوراً سياسياً قد يكون غير مرغوب فيه من الدولة أو نظام الحكم... وعلينا أن نُدرك الفرق الواضح والبيَّن بين الكنيسة كمؤسسة، وبين المسيحي كمواطن ينتمي إلى بلدٍ يخضع لقوانينه وتسري عليه شرائع دستوره، وله كل الحق في مباشرة حقوقه السياسيّة على مختلف الأصعدة، فإذا كان من الواجب بل من الضروري على الكنيسة أن تهتم كمؤسسة بالدور الروحي وضبط العلاقة بين الإنسان والله، فإن المسيحي، كمواطن يتمتع بحق المواطنة وما تمليه عليه من حقوق وواجبات عليه، أن يتمسك بالحقوق التي كفلها له الدستور والمواثيق الدوليّة في ممارسة حقه السياسي، لأن اختيار الإنسان لممثليه السياسيين والتشريعيين والمحليين والنقابيين هو حق أصيل من حقوق الإنسان، ويقوم على مبادئ روحيّة وكتابيّة أصيلة. لكن ما يجب إدراكه هو أهميّة ووجوب فصل الدين عن الدولة،
لأن أساس الدولة الحديثة هو المواطنة، والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، دون تمييز أو إقصاء على أساس الدين أو المعتقد أو الجنس أو العرق، كما أن في الفصل بين الدين والدولة ضمان لحريات واحترام التعدديّة المجتمعيّة، وعدم السماح للمؤسسات الدينيّة بالتدخل في شؤون الدولة والمواطنين، بينما يبقى دورها محصوراً في ممارسة شعائر العبادة، والمحافظة على قدسيّة الدين بعيداً عن المصالح السياسيّة. كما أن فصل الدين عن الدولة يعني فصل المُطلق عن النسبي، فالدين يتناول المطلقات، والإلهيات، ورجال الدين يدعون امتلاك الحقيقة المطلقة، بينما الدولة نسبيّة، وتختلف الدول في أنظمة الحكم، فمنها الديمقراطي وغير الديمقراطي، وأحكام الدولة نسبيّة، ورجال السياسة يصيبون ويخطئون. وفصل الدين عن الدولة يُكرس للدولة المدنيّة وسيادة القانون، ولا يسمح للمؤسسة الدينيّة ورجالاتها باستغلال المبادئ والقيم الدينيّة والروحيّة النبيلة."
في الفصل الأخير يقدم الكاتب لقرائه دعوة للمشاركة في الحياة السياسيّة، انطلاقا من "أهميّة المشاركة"، وتحقيقا ل "لاهوت المشاركة"،ويعرف القارئ ببعض أساليب المشاركة التقليديّة وغير التقليديّة، وينتهي الكتاب بملحق للمصطلحات السياسيّة التي يهم القارئ أن يتعرف عليها.
يقع الكتاب في 154 صفحة من القطع المتوسط، وهو الكتاب الخامس من سلسلة كتب "قضايا معاصرة" لدار النشر "نظرة للمستقبل".
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com