الراسل: إبرام رأفت
تابعت عبر شاشة التلفاز مع الملايين حول العالم، الزفاف التاريخي للأمير "وليام" وعروسته "كيت ميدلتون"، في تجسيد حقيقي لرواية من روايات القرون الوسطى، وإحياء لتقاليد عصر لم نعشه إلا في الأفلام والروايات التاريخية. ورغم إنني– ككثير من البريطانيين– لا أجد فائدة من استمرار الملكية وإن كانت شرفية إلى عصرنا هذا، إلا إنني استمتعت بمشاهدتي لهذا الزفاف الملكي الذي لمحت من خلاله الرُقي والأرستقراطية الغائبتان عن مجتمعنا بأكمله تقريبًا، في أفراد الأسرة المالكة.
وبالرغم من مرور هذا الزفاف الملكي الرائع على الكثيرين كحدث عظيم ربما لا يشاهده المرء كثيرًا في حياته، إلا إنه بالنسبة لي كان إلهامًا للإجابة عن سؤال لطالما دار بذهني، وهو: لماذا يكون دائمًا الرجل فاعل والمرأة مفعولًا به؟ لماذا يتقدَّم دائمًا الرجل لخطبة المرأة ولا يحدث العكس؟ لماذا يُسمَّى العريس خاطبًا بينما تسمَّى العروس مخطوبة؟ لماذا يقوم والد العروس بتوصيلها لعريسها بينما ينتظرها العريس وحيدًا في مراسم الزواج؟ لماذا لحظة تقبيل العروسين لبعضهما، يقول الناس: العريس قبّل العروس بينما العروس تم تقبيلها؟ لماذا دائمًا المرأة "مفعول به"؟ وربما بالتأمل في تقاليدنا وعاداتنا ولغتنا اليومية (على الأقل العربية) تستطيع التوصل لعشرات الممارسات التي لا يكون فيها الرجل إلا فاعلًا والمرأة مفعولًا به، وكأنها سلعة اشتراها بالشبكة والمهر.
والإجابة بكل بساطة على كل هذه الأسئلة تكمن في الزفاف الملكي. فزفاف الملوك والأمراء عبر عصور التاريخ المختلفة حظي باهتمام كبير حتى قبل اختراع وسائل الإعلام الحديثة؛ فقديمًا احتل زواج الأمراء وقصصهم الغرامية نصيبًا كبيرًا من خيالات مؤلفي القصص والروايات. فها هي "سندريلا" الفتاة المسكينة التي لا تملك من أمرها شيئًا، يبحث عنها الأمير في المدينة دار دار وزنجة زنجة إلى أن يجدها ويلبسها حذائها ويتخذها لنفسه زوجة. وها هو أمير آخر راكبًا الحصان الأبيض يتبختر بجواده كأعظم الفرسان، ذاهبًا إلى منزل حبيبته ليختطفها إلى جزيرة بعيدة ويتزوجها هناك وسط سعادة غامرة منها.
فمن وجهة نظري، تربية أجيال لمدة قرون على هذه القصص كرَّس لفكرة الفاعل والمفعول به. ورسَّخ في ذهن الفتيات فكرة انتظار الأمير فارس الأحلام، مستبعدة تمامًا فكرة أن تقصر نصف المسافة وتبحث عنه بنفسها، بل جعلها تتصرف دائمًا بأسلوب المفعول به!
ولا أستطيع إنكار عظمة تلك الأساطير والروايات التي أتصوَّر إنها لعبت دورًا عظيمًا وقتها في تغيير نظرة الرجل تجاه المرأة، الذي ظل طويلًا يعتبر أن كل وظيفتها في الحياة هي أن تكون جميلة وفقط، وإذا فقدت جمالها فقدت وظيفتها. وجعلت تلك الروايات الرجل ينظر للمرأة على أنها شخص يستحق أن يُعشق وأن يُضحى بالغالي والنفيس من أجله، جعلت الرجال ينظرون للنساء على أنهن جواهر نفيسة الثمن بعد أن كانوا يعتبروهن لا شيء. وكانت تلك خطوة هامة في طريق استرداد قيمة المرأة المسلوبة عبر التاريخ، والتي بدونها لربما لم نكن لنصل إلى نظرة القرن الحادي والعشرين التي تعتبر المرأة إنسانًا كاملًا– لا ناقصًا– خلقها الله في مساواة تامة مع الرجل.
ولا أستطيع أيضًا إنكار دور تلك الإبداعات القصصية في إرواء الصبيان قبل الفتيات بماء الحب العذب في سنوات الحروب الطويلة التي نضبت بها كل آبار المشاعر العذبة، وأصبحت حبيسة الأذهان والخيالات. ولكن أن نظل واقفين على درجة السلم التي ساعدت البشرية في الوصول إلى القمة والعلو الفكري، فبالتأكيد هناك خللًا كبيرًا، فنظرتي هذه لا تحتقر التراث بل تحترم تطور الفكر الإنساني، ولا تستكثر على المرأة أن تُعامل كالجوهرة النفيسة، بل تنظر لها على أنها إنسان – أعظم من جواهر الدنيا – إذ أن الجوهرة وإن كانت نفيسة لا تزال سلعة تُباع وتُشترى.
وللتدليل على صحة تصوري بأن تقاليد ومراسم الزواج ورثناها من قصص الملوك والأمراء من عصور بعيدة بدون تطوير، سأذكر معلومة تاريخية بسيطة؛ كانت النساء لا تلتزم بلون معين كملابس للزفاف (كان اللون الأسود منتشرًا كملابس للزفاف في الدول الإسكندنافية). أما أول من ارتدت رداءًا أبيض اللون من الأميرات في حفل زفافها الملكي بحسب الوثائق التاريخية، كانت "فيليبا" ابنة الملك "هنري الرابع" ملك "إنجلترا" عام 1406م، والتي كان مهرها أجزاء كبيرة من دولة "السويد"، حيث ارتدت عباءة من الحرير الأبيض مزيَّنة بفرو السنجاب البري رمادي اللون.. ولكن لم يصبح اللون الأبيض بعدها اللون التقليدي للعروس إلا بعد عام 1840م، حيث ارتدت الملكة "فيكتوريا" فستانًا أبيض مزينًا بالدانتيل، وانتشرت صورة زفافها على نطاق واسع آنذاك، مما دفع الكثيرات من العرائس إلى تقليدها إلى أن أصبح الفستان الأبيض رمزًا للزواج، صانعة ثقافة عالمية بزفافها. ويُذكر أيضًا عن الملكة "فيكتوريا" أنها قُوبلت باستهجان شديد من المجتمع الغربي نتيجة استخدامها للماكياج بصورة مبتذلة، إذ كانت- وقتها- العاهرات هن من يقمن بوضع الماكياج على وجوههن، فارتبط ذلك في الأذهان بالزنى.
أما في عصرنا الحديث وفي ثقافتنا العربية، فتم حقن ثقافة الفاعل والمفعول به في شرايين الجيل السابق لنا، والذي تربينا بواسطته، عبر الأفلام والأغاني المختلفة التي بالأساس استقت خيالاتها من قصص الملوك والأمراء العالمية. فأكبر مثال على ثقافة الفاعل والمفعول به ما قالته قارئة الفنجان لـ"عبد الحليم حافظ" عن حبيبته صاحبة الشعر الغجري المجنون، والتي ظلت طوال (40) دقيقة من الطرب والشجن مفعولًا به: "فحبيبة قلبك يا ولدي نائمة في قصر مرصود، من يدخل حجرتها، من يطلب يدها، من يدنو من سور حديقتها، من حاول فك ضفائرها يا ولدي مفقود مفقود".
من الجدير بالذكر أن الأمير "وليام" من مواليد 21 يونيو 1982، بينما وُلدت زوجته "كيت ميدلتون" يوم 9 يناير من نفس العام. فهل سيكون لذلك أثر على التمسك بالتقليد الذي ينادي بضرورة أن يكون الزوج أكبر عمرًا من زوجته؟
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com