بقلم: سهيل أحمد بهجت ـ كاليفورنيا
إن متابعة بسيطة لأطروحات المرحوم "عبد الوهاب المسيري"، تظهر لنا بوضوح كيف يتعامل هذا المفكر ـ الذي يعكس ثقافة شريحة كبيرة من المثقفين العرب ـ مع المجتمع الغربي، كمنتج ومحتوى علمي وفلسفي، وكأنه مجموعة معادلات رياضية فارغة، وقد تم الحكم على الإنسان الغربي بالإعدام شنقًا بالمادة حتى الموت، وهي مقولة تبدو لنا تبسيطية وتبريرية، وتمثل بالضبط اتجاهًا عكسيًا لمقولات المستشرقين، الذين يؤكدون غالبًا أن لا مجال للعلمانية في الإسلام ـ والإسلام السياسي بالمقابل يكرر هذه المقولات ليل نهار. راجع (الفكر الإسلامي قراءة علمية: محمد أركون \ ترجمة صالح هاشم) ـ فالغربي و لأنه منفتح و نسبي فهو يحوي كل التنوع والاختلاف، بينما يصرّ المسيري على إنكار هذه الحقيقة على أساس أنه "تنوع خادع" و بالتالي فإن النمط السائد هناك هو المادة و المادة وحدها، يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري:
"والترشيد عملية تنميط وفرض للنماذج الكمية والبيروقراطية للتحكم والمراقبة على كل مجالات النشاط الإنساني، إذ سيتم قياس أداء كل فرد بطريقة رياضية، والترشيد عملية ستزداد وتائرها إلى أن يصل إلى قمته الشاملة الإمبريالية، فتتم السيطرة على كل جوانب الحياة، ويتحكم الإنسان في الواقع نفسه، إلى أن يُفرَّغ المجتمع من أي دلالة أو معنى، ويتحول إلى مجموعة من المعادلات الرياضية." ـ المصدر السابق ص 99.
إن هذه المواقف تذكرني برجال الدين المتزمتين، الذين يخشون من كل شيء اسمه "نقد فكري" ويظنون أن كل دعوة إلى العقلنة هي فكّ ارتباط بين الإنسان والإله، و أنها دعوات "شيطانية" تسعى إلى رمي الإنسان في أحضان المادية "الكافرة"!!، وكأن البقاء في الحياة البدائية وإحاطة الإنسان بجدران من الممنوعات والمحرمات كفيل بجعل الإنسان سعيدًا، وطوال التاريخ الإنساني ـ حتى ذلك المشبع بالدين أو مجتمعات الكـِتاب كما يسميها محمد أركون ـ كان التقييم الإنساني يقوم في الغالب على الكم المادي مع وجود جوانب معنوية حتى في الغرب الذي يوصف مادّيا من قبل خصومه، ففي تاريخ الفقه الإسلامي نجد أن القيمة غالبا ما تمنح للفقيه الذي درس أكثر و كتب أو امتلك عددا أكبر من الطلاب و المريدين، وفي الغرب نجد ـ كمثال على الجانب المعنوي ـ لوحة فنية قد تباع أحيانًا بمبالغ خيالية ـ كإحدى لوحات فانكوخ التي بيعت بـ 80 مليون دولار أمريكي ـ رغم أن الفنان الذي أنجز ذلك العمل الفني قد يكون رسمها خلال فترة وجيزة وبجهد ضئيل، ولكن رغم ذلك تمتلك اللوحة بعدا إنسانيًا و قيميًا واجتماعيًا، بينما أذكر أن أكبر تقدير كنت أحصل عليه من رسم اللوحات ـ و التي كانت ترهقني جدًا ـ كان بعض الأدعية و كلمات التشجيع الفارغة، إن وضع الإنسان في معادلة رياضية فارغة ينطبق تمامًا على مجمل النظرية المسيرية، فالإنسان في مفهوم المسيري جزء من مادة بلا معنى، لذلك نجد أن من أسهل الأمور في نظر المسيري أن نحول الإنسان من شيء إلى آخر، بمعنى أنه لا يمتلك ذلك التعقيد الفكري والنفسي الذي يجعله كائنا قادرًا على تجاوز محيطه ـ أيّا كان هذا المحيط ـ و بالتالي فهو مجرد متلقي فارغ من الاختيار والتمييز.
إن الإمبريالية منظومة لا علاقة عضوية بينها وبين العلمانية، إن المنظومة الإمبريالية هي منظومة اندثرت مع نهاية عصر الاستعمار وتحول العالم إلى الدولة الأرضية، التي ستهيء منظومة بشرية تنهي عصور الصراعات والحروب، ومشكلة المسيري أنه يربط بين الإمبريالية والعلمانية (الغربية) بمنهجية قسرية ذات أحكام مسبقة، فالإمبريالية تزامنت مع وجود شعوب وأديان مختلفة، فمنذ الإمبراطوريات القديمة الآشورية والبابلية والفارسية والمقدونية والرومانية إلى الإسلامية والمغولية والعثمانية والإمبريالية الغربية، التي اختلفت عما سبقها بفضل إصلاحاتها الداخلية وتطور الفلسفات التنويرية التي وفرت للغرب ما يكفي من العقلنة، للحفاظ على وتيرة مستقرة من التنمية البشرية، ولا أحد ينكر أن تطور الغرب لم يكن بمعزل عن السلبيات و المآسي التي شهدت تطور أنظمة فائقة التطور علميًا وعسكريًا، ولكن هذه السلبيات تترافق مع كل عمل بشري جماعي، وكلما توسع العمل تراكمت أخطاء أكبر وأعمق، فعصور صدر الإسلام شهدت أفظع الجرائم والانتهاكات على يد الأمويين والعباسيين، فهل كان الإسلام كدين مسئولاً عن ذلك؟ ولماذا نتناسى أن الدين كان الوسيلة والغاية في آن واحد بين الظالمين والمظلومين، فالأمويون اصطنعوا لأنفسهم تبريرًا دينيًا يضفي شرعية على حكمهم، وكان معارضوهم من الشيعة والخوارج والقدرية ـ المؤمنون بحرية الإنسان ـ يتخذون الدين كغاية تستطيع القضاء على الظلم.
إن العقلنة قد تؤدي بالإنسان إلى دخول عالم من القلق، بعد أن يبدأ بالشك في معايير حياته وإدراك قوانين العلّة والمعلول، وأن معتقدات الآباء والأجداد قد لا تكون بالضرورة صحيحة، ولكن الشك في مفاهيم التراث لا يمنع محاولة استكشاف النص الديني المقدس، وما يحيط به من تراث متراكم عبر القرون، والدليل على ذلك أن كل الأديان و الطوائف التي تعاني التهميش في دول العالم الثالث تجد لنفسها ملجأ في دول الغرب العلماني، وتركيا التي كانت تطرد المسيحيين والأرمن والشيعة في القرون الوسطى، أصبحت في عصرها العلماني عنصر جذب لكل الانتماءات الفكرية، وحتى المشكلة القومية آخذة في الاندثار في هذا البلد بفعل الأنسنة، والسؤال المطروح بإلحاح هنا هو هل أن الإسلام يتفق مع منطق الشك الذي تقوم على أساسه الحضارة الحديثة أم لا؟ إن أهم نقطة محورية مركزية في القرآن هي شجب التقليد، وتحديدًا حينما تتطاول الأزمان على الأفكار والعقائد، بينما يريدنا المسيري أن نتطور داخل الثبات والمطلقات ـ التي تتعدد بتعدد الأفراد فضلا عن تعدد الأديان ــ ومن هنا كان التناقض، ففي الغرب تجد المؤمنين بكل الأفكار، ابتداءً من أقصى اليمين (المؤمنون بأن الدين وحده الحل) إلى الوسط (الذي يؤمن بالدين والعلمانية) إلى أقصى اليسار (المؤمنين بأن القوانين المادية وحدها هي التي تحكم)، وهذا التنوع ضروري للتقدم، بينما يريدنا المسيري أن نصدق أن مجرد أكل الوجبات السريعة والهامبورغر ولبس الجينز سيخرجنا من الدين.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com