بقلم: د.حمدي الحناوي
وسط المشكلات الملتهبة التى تشغلنا وتهدد الوطن، يفتقد كثير من الناس الرؤية الأوسع، ويتجهون إلى التقوقع داخل دوائر صغيرة. ربما يشعرون بالمشكلات الكبرى، لكنها لا تشغلهم كثيرا، وقد يعرفون أنها مصدر توترهم فى الحاضر وخوفهم من المستقبل، لكنهم يفرغون توتراتهم بالعراك مع غيرهم من الناس لأتفه الأسباب. وبعد العراك يشغلون وقتهم باستعراض غزواتهم، والتفنن فى رواية تفاصيل ما مارسوه من عنف وعدوانية. وقد يشعرون بالنشوة لما يتصورونه انتصارات وبطولات شخصية.
هذه زوابع صغيرة، تؤكد قدرة من يثيرونها على الدفاع عن أنفسهم وعن حقوقهم، لكنها تشير إلى أنهم لا يوجهون نضالهم لتغيير الأوضاع التى تهددهم وتهدد حقوقهم. ويبدو أن ميراث ثقافة الفتونة التى سادت فى الماضى قد آل إليهم، وأنهم أساءوا فهمها كما أساءوا استخدامها. تنتشر هذه الظاهرة فى المناطق الشعبية، حيث يتراكم الفقر ويتغذى الناس على التطلعات والأمانى. تنتشر نفس الظاهرة ولكن بصورة متحورة فى مناطق أخرى، فى بعض دوائر الطبقة الوسطى والمثقفين. وهناك تنتقل ثقافة الفتونة إلى مستوى أعلى فى الممارسة، فيستخدم الإعلام لمخاطبة فئات عريضة، واختزال قضايا الوطن إلى معارك تحركها معتقدات شخصية.
توجه السهام فى جميع الأحوال إلى مصريين يمثلون الآخر، ويظهر أثر التعليم فيرتقى مستوى العناد، ويتم تحوير الحجج وتأويل المعانى، لوصف مخاطر وهمية يتهم الآخر بأنه مصدرها. وبهذا يبدو من يطلق السهام ذا معرفة واسعة وقدرة على التنبؤ بالأهوال قبل وقوعها. ونحن نحتاج حقا إلى من يحذرنا من المخاطر، ولكن ينبغى عدم المبالغة فيها، وألا نرفض لحظة سانحة للتصالح. وربما نتفق فى الوقت ذاته على أن التصالح ليس بالضرورة قبولا بالحياد أو بحل وسط. والمؤكد أنه لا حياد فى قضايا أمن الوطن أو وحدته.
نفس الزوابع الصغيرة تثار داخل أحزاب، تقول أنها تناضل من أجلنا، وجميع قادتها بالطبع زعماء. والزعيم لا يكون زعيما إلا إذا كان له أتباع يطيعونه، وإذا اختلف مع زعيم آخر فى حزبه يصبح الحزب أضيق من أن يتسع لكليهما، وتبدأ حرب تكسير العظام. يكيل كل منهما للآخر كل ما يتصور من تهم. وكثيرا ما تكون الاتهامات نبشا للماضى، وإشارة إلى أخطاء مضت وانتهى أمرها، لربط الحاضر بالماضى ولإثبات أن شخصا ما كان دائما قزما أو فاسدا أو جاهلا. وقد تدور بعض تلك المعارك فى سرية لكنها فى النهاية تطفو على السطح، لأن الزعماء لا يستسلمون، إلى أن يثبتوا جدارتهم طال الوقت أو قصر.
فى مستوى أعلى، سيطرت على السودان يوما جبهة كانت تسمى جبهة الإنقاذ. اختلف زعماؤها وخرج أحدهم من السلطة، وخاض الجميع معركة طاحنة لم يتورعوا فيها عن تمزيق الوطن. وسمعنا أحدهم يقول أن انفصال الجنوب يعطيه حرية تطبيق الشريعة الإسلامية فى الشمال، بما يعنى مواصلة التمزيق. وسمعنا طرفا آخر يعلن بشماتة، لا نعرف ضد من، أن السودان قد يصبح ثمانية دول. وفى مصر قوى تلعب بنفس النار، ولا يهمها أن ينقسم الوطن، والأسوأ أن يحدث هذا باسم الله.
يدعم تلك الزوابع فكر سياسى عقيم، وحركات ثورية لا مبالية، ترفع شعارات لا تعبر عن الواقع. يتصور البعض أن الهتاف بسقوط النظام يكفى لإسقاطه، وقد تكرر هذا الهتاف فى وقفات احتجاجية ولم يسقط النظام. وبدون فهم للإعصار التونسى، يظن البعض أن إشعال النار فى أجسامهم يصنع إعصارا ثوريا مماثلا. وتظل مثل تلك السطحية مهيمنة إلى أن يقتنع الناس أنهم لكى يغيروا حياتهم، يجب أن يتحاوروا ويتفقوا على برنامج للبناء.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com