ميشيل حنا الحاج
اذا كانت عملية تحرير الموصل تتم بتوافق أميركي عراقي، أي نتيجة اتفاق واضح مع الدولة صاحبة الأرض التي يسعى الطرفان لتحرير احدى مدنها، مع رفض عراقي متواصل لأي دور تركي في عملية التحرير هذه، فان عملية تحرير الرقة يسودها غموض حول من يشارك فيها. وهل تقتصر المشاركة فيها على القوات الأميركية التي لا تمتلك قوات أرضية، أم أنها ستشرك القوات السورية فيها، علما أن الاغارات الجوية الأميركية وحدها بدون مشاركة قوات أرضية، لن تنجح بتحرير حي واحد من أحياء المدينة.
ويقدر المخططون العسكريون أهمية وجدوى تزامن معركة الرقة مع معركة الموصل لسببين:
أولهما كي لا يتطلع الدواعش الى الفرار من الموصل والاحتماء بالرقة. فالمعركة المتزامنة في المدينتين، تجعل عملية الاحتماء بالرقة غير مجدية، طالما أنها هي أيضا ستواجه معركة مشابهة، علما أن ما يثير بعض الشكوك التي تعزز ذلك، أن الموصل قد حوصرت من ثلاث جهات، وتقول بعض الأنباء أن الجهة الرابعة وهي الجهة الغربية التي يمكن التوجه منها نحو الأراضي السورية، قد تركت مفتوحة. ولا يعلم أحد ان كان ذلك أمرا عفويا، أو نتيجة عدم توافر الامكانيات... أم ترى كان متعمدا كي تتمكن قوات الدولة الاسلامية من الفرار عبرها والتجمع في مدينة الرقة، امعانا في الكيد للدولة السورية.
وثانيهما احتمال وجود اعتماد من دواعش الموصل على امكانية استحضار مقاتلين من الرقة اذا ما ضاق بهم الحال، وواجهوا ضعفا وحاجة لتعزيز قواتهم. فتحريك معركة الرقة اأيضا وفي وقت متزامن مع معركة الموصل، يجعل كل مدينة بحاجة للاعتماد على ما لديها من قوات، دون توقع قدوم امدادات من مدينة أخرى.
والواقع أنه طالما حث المحللون السياسيون والعسكريون على وجوب تزامن المعركتين، كي لا تصبح أي منهما، في حال الانفراد بمعركة منفصلة في أيهما، من تحول المدينة الآمنة منهما، لنقطة امداد واغاثة وعون للمدينة المهاجمة. فلا اعتراض اذن على تزامن المعركتين. كل ما في الأمر، أن الكثيرين يتساءلون عن قانونية انفراد القوات الأميركية بالتخطيط لهذه المعركة ضد مدينة الرقة، واتخاذ قرار منفرد بشأنها.
فسوريا هي صاحبة الأرض، وانسجاما مع ما تقتضيه القوانين الدولية، يفترض مشاورتها والحصول على موافقتها المسبقة، تماما كما حصل مع العراق، قبل الاقدام على الشروع بمعركة تحرير الموصل. فالمعركة في الموصل هي معركة العراق وبقرار عراقي، ودور التحالف الأميركي ألأساسي هو مساندة العراق فحسب. ونتيجة ذلك، لم تستطع حتى الولايات المتحدة، ورغم وساطة شخصية ومباشرة من آشتون كارتر بين العراق وتركيا، أن تفرض على العراق تقبل التدخل التركي في تلك المعركة، مع تأكيد حيدر العبادي المتكرر بأنه لا دور لتركيا، فالموصل معركة العراق والعراقيين.
ويبدو أن القوات الأميركية لا تكتفي بالتخطيط منفردة لتحرير الرقة، فهي توافق ربما منفردة أيضا، على مشاركة قوات الحماية التركية وجيش سوريا الدمقراطي فيها (رغم الاعتراض التركي)، والتي أشاد أشتون كارتر (اليوم بالذات) ببأسها وبقدراتها القتالية والتي أثبتتها بجدارة (كما قال) في معاركها الأخيرة ضد الدولة الاسلامية في الشمال السوري. ويقول المثل العربي: "مين يشهد بجمال العروسة الا أمها واختها وخالتها ؟". فالولايات المتحدة هي أم وأب وجد ومربي قوات الحماية الكردية وجيش سوريا الدمقراطي، والذي شكلته ودربته ليصبح البديل الأميركي لجيش سوريا الحر الذي بات الابن البار لتركيا.
والواقع أنه لا أحد يستطيع أن ينكر جدية وشجاعة الأكراد في مقاتلة الدولة الاسلامية سواء في سوريا أو في العراق. ولكن لا بد من ملاحظة أن الأمر لم يتوقف على الشجاعة وحدها، فقد رافقها تدريب أميركي للأكراد، ودعم متميز بالكم والنوع للسلاح المقدم لأكراد العراق واكراد سوريا. والأهم من ذلك، الدعم المعلوماتي الاستخباراتي الأميركي لهم، والذي يساعدهم على تحقيق انجازات باهرة نفرح ونسر بها كثيرا، لكونهم يقاتلون قوة غاشمة هي الدولة الاسلامية التي يكرهها الجميع.
وقد تنبه الكثيرون في السابق، لمدى الاهتمام الخاص والمتميز الذي تبذله الولايات المتحدة لحماية اكراد سوريا والعراق، عندما لاحظوا عنفوان هجماتها على قوات الدولة الاسلامية التي كادت تحاصر أربيل (في العراق) في حزيران 2014، وعندما حاصرت فعلا بعد شهور قليلة عين العرب (كوباني) (في سوريا)، ثم في الدعم المتميز لتحرير جبل سنجار والقرى المحيطة به من مقاتلي الدولة الاسلامية، وأخيرا دعمها لهم في المعركة التي خاضتها قوات الحماية الكردية ولم تزل تخوضها في الشمال السوري، مطاردة مقاتلي الدولة الاسلامية أينما وجدوا في المنطقة ذات الأغلبية الكردية.
ولا أريد الخروج عن الموضوع. ولكني أود التذكير بأن هذا التعامل والدعم الخاص للأكراد، ليس مرده الرغبة المحضة في مقاتلة الدولة الاسلامية، بل هو مجرد خطوات مبدئية نحو تنفيذ مشروع الشرق أوسط الجديد لكن بثوب جديد، ومحوره تشكيل دولة كردية مستقلة (أعتتقد أن لهم الحق الطبيعي بها)، على أجزاء تقتطع من العراق وسوريا وايران وتركيا، باعتبار أن الولايات المتحدة في معرض حرصها على تجنب الخروج عن القانون الدولي، لا تقوم الآن بتفتيت دول المنطقة، الأمر المنتقد والمعارض دوليا، اذ أنها في حالة الأكراد، (ولغرض خاص غير معلن ربما له علاقة بضمان أمن اسرائيل)، تساعد الآن شعبا يتطلع الى الحصول على حقوقه القومية في الحرية والاستقلال في كيان خاص به.
فبعد تأكيد أشتون كارتر بأن الولايات المتحدة لن ترسل قوات أرضية للمشاركة في معركة الرقة، كشف بـأنها سوف تستعين بجيش سوريا الدمقراطي في عملية عزل الرقة، دون أي اشارة لدور ما للقوات السورية في ذلك، مضيفا بأن القوات الكردية أثبتت بأنها الأفوى والأكثر تنظيما وقدرة قتالية من أية قوات أخرى في المنطقة. وتبريرا لهذا الاعلان الأميركي المثير للجدل، ينطلق الجنرال ستيف تاونسند، المشرف على ادارة عمليات القتال في الشمال السوري، مشيدا بكفاءة وبطولة قوات الحماية الكردية وقوات جيش سوريا الدمقراطي، قائلا بأنها قد أثبت بسالة وكفاءة عالية في معارك تحرير مساحات واسعة من شمال سوريا من مقاتلي الدولة الاسلامية، وخصوصا في معركتي دابق ومنبج". مضيفا "ولكننا بحاجة لتدريب مزيد منهم".
ولا تشير التصريحات الأميركية لأي تنسيق في هذا الشأن مع الحكومة السورية، خلافا لتنسيقها المطول والواسع والممتد في الزمن من ناحية التخطيط المسبق مع الحكومة العراقية، وذلك ما لم يكن هناك اتفاق سري بين الولايات المتحدة من ناحية، وروسيا وسورية من ناحية أخرى، وهو اتفاق لم يكشف عنه بين الطرفين. يعزز احتمال وجوده، مشاركة طائرات هليكوبتر سورية في تقديم الدعم لقوات سوريا الدمقراطية يوم الثلاثاء (25 تشرين أول) التي كانت تخوض معركة ضد جيش سوريا الحر المدعوم والمتبنى من قبل تركيا، علما أن الرئيس بوتين قد قال بصراحة أن محاولاته للتنسيق ما مع أوباما من أجل انهاء حمامات الدم في سوريا، قد باءت بالفشل.
وهنا لا بد أن نلاحظ أن اكراد سورية في جيش سوريا الدمقراطي، هم أيضا سوريون ولم يقاتلوا الا في بعض المناوشات العابرة (في الحسكة) ضد الدولة السورية. وبالتالي سوف يكون بوسع الولايات المتحدة الادعاء بأنها لم تهمل تماما الدور السوري في عملية الرقة التي تتذبذب التصريحات الأميركية بين كونها عملية لتحرير مدينة الرقة، وعملية لعزل المدينة، ربما منعا لانتقال مقاتلي الموصل اليها، أو قيام مقاتلي الدولة الاسلامية في الرقة، من ارسال تعزيزات لمقاتليها في الموصل. ويرجح المحلل السياسي التركي عمر كوشكو، بأن الحديث الأميركي ما زال يقتصر على عزل الرقة وليس تحريرها. فاذا اقتصر الأمر على مجرد عزل المدينة، يكون الأمر عندئذ ممكنا وقابلا للتنفيذ مكتفين بمشاركة جيش سوريا الدمقراطية. أما اذا امتد الأمر ليبلغ مرحلة تحرير المدينة، فتلك عندئذ عملية أكبر وتحتاج لقوات كبيرة على الأرض لا يمكن أن يكتفى معها بمشاركة قوات جيش سوريا الدمقراطي المحدود عددا. وتهدد تركيا التي باتت الآن تنسق الى حد ما مع روسيا، بأنها بمجرد انتهائها من تحرير مدينتي الباب ومنبج، سوف تتوجه هي أيضا نحو الرقة، رغم اعتبار سوريا المتحالفة مع روسيا، لكن المنسقة (روسيا) بدورها مع تركيا، بأن التدخل التركي في الشمال السوري، هو عدوان سافر على السيادة السورية.
وقد لاحظنا من قبل، كم القوات التي حشدها العراق لتحرير الموصل، اذ ضمت قوات الجيش العراقي كاملة، والقوات الخاصة، وقوات الحشد الشعبي، وقوات الحشد العشائري، اضافة الى القوات التي شكلها أثيل النجيفي(المحافظ السابق للموصل) والمؤلفة من أبناء مدينة الموصل. والى جانب أولئك كلهم، هناك قوات البشميركة الكردية الموازية لجيش سوريا الدمقراطي. فهل يمكن بعد ذلك تحرير الرقة، باكتفاء الولايات المتحدة بالاستعانة بجيش سوريا الدمقراطي، ما لم يكن المطلوب فعلا، هو مجرد عزل الرقة لا تحريرها.
اذن سيختلف الأمر عندما تتطور المعركة لتبلغ مرحلة معركة التحرير التي لا أرجح بأن الولايات المتحدة راغبة فيها حقا. اذ تريد ابقاء الرقة تحت الاحتلال الداعشي، كشوكة ضاغطة وتفاوضية في خاصرة الدولة السورية، تماما كما هو الحال بالنسبة للابقاء على جيش فتح الشام (النصرة)، وجيش الاسلام، وكتائب أحرار الشام، ونور الدين زنكي، وكتائب الرسول المصطفى، ومقاتلي التركمان التابعين لتركيا، وغيرها من القوات المعارضة للحكومة السورية.
فمعركة تحرير الموصل اذن، شيء يختلف تماما عن معركة تحرير الرقة غير المرغوب بها خلافا لمعركة تحرير الموصل التي يرغب الرئيس أوباما في انجازها بنجاح تام لسببين، أولهما انهاء عهده قريب الانتهاء بنصر عسكري، وثانيهما التكفير عن خطأ جوهري ارتكبه في شهر حزيران (يونيو) 2014 ، عندما رصدت أقماره الصناعية مواكب طويلة لجيش الدولة الاسلامية، تسير متهادية، منطلقة من الأنبار متوجهة نحو شمال العراق، ومع ذلك لم تفعل الولايات المتحدة شيئا لايقاف زحفها، مما أدى نتيجة سيطرتها على محافظات عراقية كبرى ثلاث، وعلى ما فيها من أسلحة وقوات مسلحة، الى التحول الى مارد عسكري بات بحاجة الى ثلاث تحالفات دولية لاستئصاله أو تحجيمه.
ففي تلك المرحلة، كانت الولايات المتحدة ترغب في استقواء الدولة الاسلامية (وهو ما يفسر عدم اجهاض تحركها ذاك نحو المحافظات الثلاث)، لتستطيع استدراج التنظيمات المرتبطة بتنظيم القاعدة، لفك ارتباطها بذاك التنظيم، ومبايعة الدولة الاسلامية القوية ذات الصفات الماردية. أما الان وقد تمادت الدولة الاسلامية في شططها المغولي، فقد بات من الضروري تقزيمها، في العراق على الأقل، لاعادة تحجيمها من ناحية، ولتكفير الرئيس أوباما عن ذنب خطير ارتكبه، وذلك كانجاز أخير له قبل رحيله. أما الرقة فشيء آخر، آخر تماما. ومع ذلك يمكن استخدام الدعوة لتحريرها، وهي دعوة غير حقيقية وغير جادة، ولكن يمكن استخدامها كجزرة اغراء لاستدراج الحكومة السورية لسحب قواتها المحاصرة لحلب، بغية حشدها حول الرقة بزعم الرغبة في تحريرها.
فالمطلوب أميركيا اذن، هو عزل الرقة وليس تحريرها . فاذا كان تحرير الموصل يخدم مصلحة أميركية، فان بقاء مدينة الرقة تحت هيمنة الدولة الاسلامية، يخدم أيضا مصلحة أميركية تفاوضية، ومثلها بقاء جبهة النصرة (فتح الشام) في شرق حلب. والتوجه نحو عزل الرقة، بادعاء أنها خطوة نحو تحريرها، ان هو الا مجرد استدراج للنخوة السورية الحكومية، لتتخلى عن حصار شرق حلب، والتوجه بقواتها نحو المشاركة في مهاجمة الرقة التي لن تهاجم، بل سيكتفى بحصارها خدمة لمصلحة تحرير الموصل، وللابقاء على كل الخناجر المغروسة في جسم الدولة السورية، مغروسة فيها الى أن يتم الحل لتلك المعضلة بالأسلوب والنهج الذي تريده الولايات المتحدة.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com