الدهاء السياسى عملة شبه نادرة فى معظم البلاد العربية منذ فترة، والدهاء السياسى لا يأتى من فراغ، ولكن يستلزم مواهب وقدرات كثيرة ليصير صاحبها من أهل الدهاء السياسى.
ومن أهم هذه المواهب الذكاء والفطنة وسرعة البديهة وجودة قراءة الواقع والاطلاع عليه وكثرة قراءة التاريخ واستشراف المستقبل وكثرة الأسفار وكثرة الاختلاط بالسياسة وأهلها وقراءة مذكرات الساسة، وتأمل تاريخ الحروب والصراعات السياسية على مر العصور وكثرة التأمل والتفكير.
ومن أشهر دهاة العرب معاوية بن أبى سفيان وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة.
ومن أبرز دهاة السياسة فى العصر الحديث الرئيس السادات الذى هداه دهاؤه إلى الخروج من قضية اغتيال أمين عثمان مثل الشعرة من العجين، ثم إلى الانضمام للضباط الأحرار فى الوقت المناسب والتحوط ليلة الثورة حتى لا يضيع مستقبله إذا فشلت الثورة.
ثم رأى أن اندماجه بين الضباط الأحرار بعد وصولهم للسلطة فيه من المخاطر والمؤامرات ما فيه، خاصة إذا كان له رأى يناقض أو يناهض رأى عبدالناصر، وعزّز لديه هذه المخاوف ما فعله ناصر مع نجيب، حيث نكّل به وأذلّه بما لم يحدث له من قبل، فإذا بالسادات يبتعد بذكاء عن السياسة إلى الصحافة، وقال لناصر حينما شعر برغبته فى الانفراد بالحكم: سأسافر، ورأيى فى أى تصويت معك يا ناصر.
استمر ناصر فى تقليم أظافر زملائه وأصدقائه من أعضاء مجلس قيادة الثورة واحداً تلو الآخر بطريقة لا تخلو من الذكاء وانتهاز المواقف، ولم يبق معه فى هرم السلطة الأكبر سوى صديق عمره عامر.
فلما جاءت كارثة 5 يونيو سنة 1967 ضحّى ناصر بصديقه عامر الذى أصر على خيارين كلاهما مستحيل وقتها: إما البقاء معاً ناصر وعامر، وإما الرحيل معاً، فكلانا مسئول عن الهزيمة، وبعد موت عامر لم يجد ناصر سلوى له إلا فى السادات الذى كان من الذكاء بحيث لم يفرض نفسه عليه أو يقتحم عليه المشهد.
كان ناصر يعتبر هيكل أفضل وأهم لديه من نائبه السادات أو أى وزير آخر، فقد كان بمثابة المعلم والموجّه لناصر بطريقة خفية، ويُعد هيكل من الدهاة أيضاً، فقد استطاع أن يوجه ناصر بطريقة غير مباشرة سنوات طويلة أشبه بـ«بيدبا» الفيلسوف مع «دبشليم الملك».
ظل السادات مستبطناً كل التجارب الفاشلة لناصر والتى نوى تغييرها دون أن يُظهر ذلك لأحد حتى واتته الفرصة بطريقة أسرع مما تصور، فقد مات ناصر وهو فى ريعان شبابه، 52 عاماً، قبل اختراع زرع شرايين القلب التى أطالت أعمار الرؤساء والعامة أيضاً. تسلم السادات الحكم فى أسوأ الظروف، فكل فريق الحكم المعاون يكرهه ويوالى ناصر، والحليف الدولى السوفيتى يكرهه، وأكثر الضباط لا يثقون به ولا يعرفون قدراته.
شجّعه هذا النجاح على أن يدخل معركته الأساسية التى لا مفر منها لتحرير سيناء، كانت مغامرة صعبة جداً، خاصة لكل من يتذكر سابقة الهزيمة منذ 6 سنوات، طعن الكثيرون ومنهم اليساريون والناصريون فى قدراته على خوض المعركة فضلاً عن النصر. وبنى خطة استراتيجية للخداع لم تحدث من قبل، استخدم فيها كل دهائه. زادت ثقته بنفسه يوم أن خدع السوفيت وحصل منهم على أسلحة متطورة لم يعطوها لحليفهم ناصر.
أرسل للروس أعظم أصدقائهم عزيز صدقى، كان يدرك أن الروس تعاهدوا مع الأمريكان على منع الحرب فى الشرق الأوسط، طرد الخبراء الروس حتى لا يطير خبر ساعة الصفر للعالم كله.
نجح فى معركة 6 أكتوبر حسب الإمكانيات المتاحة له، كان داهية حين لم يستكمل حرباً قد تتحول إلى هزيمة. البعض يقول إنه نجح عسكرياً وفشل سياسياً، هذا كذب، النصر يؤدى إلى نجاح سياسى، والهزيمة لا يمكن أن تتحول إلى نصر سياسى، النصر نصر والهزيمة هزيمة.
السادات كان داهية حقاً، فقد خدع إسرائيل فى الحرب والسلام معاً، حتى إن بيجن، صقر إسرائيل، أصابه الاكتئاب الحاد بعد أن أعطى سيناء للسادات، معظم ما ربحه السادات جناه مبارك، كما أن جهود عبدالناصر فى بناء الجيش المصرى صبّت فى مصلحة السادات.
رغم دهاء السادات كانت له أخطاء خطيرة وهنات كثيرة، ولكنها لا تقدح دوماً فى دهائه. الدهاء أحياناً له ضريبة كبيرة كما له حسنات كثيرة، رحم الله الجميع وغفر لهم.
نقلا عن الوطن
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com