كتبت: ميرفت عياد
دخل الربيع يضحك لقاني حزين
نده الربيع على اسمي لم قلت مين
حط الربيع أزهاره جنبي وراح
وايش تعمل الأزهار للميتين؟
عجبي!
بهذه الرباعية التي خطَّها قلمك، أرثيك أيها الفنان المُبدع "صلاح جاهين".. وأعزِّي شعب "مصر" في الذكرى الثمانين لميلادك على فقده لقيمة فنية كبيرة، وقلب كبير استطاع أن يضم بين جنباته أحلام وآمال وإحباطات وأحزان البسطاء؛ فاستطاع أن يرسم قلمه- سواء بالحروف او بالخطوط البسيطة والتلقائية- كل ما يشغل بال الشعب المصري بجميع فئاته.. فخرجت أشعاره ورسوماته الكاريكاتيرية إلى النور.. لتضئ ظلمة الظلم والاستبداد.. فعشقه الملايين، وحفظوا رباعياته عن ظهر قلب، وردَّدوها عندما دعتهم الظروف إلى التعجب على حال الحياة..
مولد نجم جديد في سماء الإبداع
هذا هو "صلاح جاهين" الذي كان يشع سعادة وفرحًا على كل من حوله منذ مولده في (25) ديسمبر عام 1930 في حي "شبرا" بـ"القاهرة". ففي هذا اليوم، سكنت الرياح ليستمع الكون إلى تغريد العصافير التي انطلقت لتعلن بصوتها الساحر مولد نجم جديد في سماء الإبداع؛ فشب "صلاح" وكبر على حب القراءة التي نمتها بداخله والدته التي كانت تروي له العديد من القصص، كما لعبت مكتبة جده السياسي والكاتب "أحمد حلمي" دورًا كبيرًا في إتاحة مكتبة منزلية على قدر كبير من الثراء والتنوع؛ فنشأ ولعه بالثقافة والفكر. ولعل هذا ما ساعده على اشتعال نيران موهبته التي ظلَّت تشتعل في داخله، إلى أن أراد إخماد جمرها، فدرس في كلية الفنون الجميلة ، وفي ذات الوقت أراد أن يطيع رغبة والده المستشار القضائي، فالتحق بكلية الحقوق بناء على رغبة والده، إلا أنه لم يستطع أن يُكمل دراسته بها.
على رأس قائمة المعتقلين
وبدأت رحلة "صلاح جاهين" مع الإبداع بجدية، بإصدار أول دواوينه "كلمة سلام" في عام 1955، وبعد عامين أعقبه ديوان "موال عشان القنال" و"الليلة الكبيرة" التي لاقت شهرة واسعة جدًا. وقام بتلحينها صديقه "سيد مكاوي"، كم ذاعت شهرته كرسام كاريكاتير في مجلة "روزاليوسف". وفى عام 1957 قرَّر أن يشارك في تأسيس مجلة "صباح الخير".
ولاقت شخصيات "صلاح جاهين" الكاريكاتورية نجاحًا كبيرًا وإقبالاً من القراء. ومن هذه الشخصيات: قهوة النشاط، والفهامة، ودرش، وغيرها. ومن شدة موهبته وإخلاصه لإبداعه، خرجت رسوماته بصورة قوية، لدرجة أنها تسبَّبت أكثر من مرة في أزمات سياسية عديدة، كما عرَّضته إلى دخول المعتقل، لولا تدخل الرئيس الراحل "جمال عبد الناصر".
الضاحك الباكى
ويُعد "صلاح جاهين"- الضاحك الباكي- من أعظم شعراء العامية في القرن العشرين، حيث أن رباعياته حقَّقت شهرة واسعة جدًا، برغم أنها تحمل في محتواها أسئلة فلسفية وميتافيزيقية وكونية، إلا أنها تميَّزت بأسلوب سهل وبسيط يسهل على العامة فهمه واستيعابه. ولعل هذا هو السبب الذي جعل كتاب رباعياته التي أصدرته الهيئة المصرية العامة للكتاب، تجاوز مبيعاته أكثر من (125) ألف نسخة في غضون بضعة أيام. ومن فرط جمال تلك الرباعيات، وعمق معانيها التي تتغلل داخل النفس؛ لحَّنها الملحن الراحل "سيد مكاوي"، وغنَّاها الفنان "علي الحجار"، ومن هذه الرباعيات المغنَّاة:
مُرغم عليك يا صبح مغصوب يا ليل
لا دخلتها برجليه ولا كانلي ميل
شايلني شيل دخلت أنا في الحياة
وبكره ح أخرج شايلني شيل
عجبي!
شاعر الثورة
استطاع "جاهين" بقلمه المُبدع، أن يترجم مشاعر وأحلام ملايين المصريين إلى كلمات حية مليئة بالفرح والأمل والكرامة. ولعل هذا ما جعل بعض النقَّاد يُطلقون عليه لقب "شاعر الثورة"؛ حيث أن كل ما كتبه كان يتحوَّل إلى أغنيات ثورية شعبية. ولقد ساعده على هذا، موهبته التي تغوص في أعماق النفس البشرية، لتخرج ما بها من مشاعر متباينة في صورة كلمات عامية بسيطة وبليغة في آن واحد. ولكن هذا القلم المُبدع، لم يقتصر على لون واحد من ألوان الإبداع، فكتب لنا العديد من المسرحيات مثل: "القاهرة في ألف عام"، كما كتب أغاني العديد من المسرحيات مثل "إيزيس"، و"الحرافيش". وقدَّم العديد من الأعمال المتميِّزة للأطفال مثل مسرحيات "الفيل النونو الغلباوي"، و"الشاطر حسن"، و"صحصح لما ينجح"، و"حمار شهاب الدين "؛ ولذلك اختارته وزارة الثقافة عام 1962 ليكون مسئولاً عن كل ما يتصل بتوجيه الطفل وثقافته.
أجمل السيناريوهات
وجاءت نكسة 1967 لتصيب هذا الفنان المُبدع بحالة من الاكتئاب ظلت تلازمه طيلة حياته، على الرغم من أنه تغلَّب على آلامه وأحزانه. فقرَّر أن يطرق باب السينما والتلفزيون ليقدِّم لنا أجمل سيناريوهات الأفلام، مثل "خللَّي بالك من زوزو"، و"أميرة حبي أنا"، و"عودة الابن الضال"، و"شفيقة ومتولى". كما قدَّم للتلفزيون سيناريو وحوار مسلسل "هو وهي"، والفوازير التي قامت ببطولتها الفنَّانة الجميلة "نيللي". وأراد أن يجرِّب تجربة التمثيل، فقام بدور في بعض الأفلام مثل "جميلة بو حريد"، "اللص والكلاب"، "شهيدة العشق الإلهي"، "لا وقت للحب". وعن أدواره في السينما، قال "جاهين": "كل الأدوار اللي عُرضت علىَّ، كانوا بيختاروني عشان وزني فقط.. أنا دخلت مجال التمثيل من باب الفضول".
شمس تشع بالفرح
ومن أجمل ما قيل عنه، ما قاله الكاتب والمفكِّر "أحمد بهجت": "كان صلاح جاهين شمسًا تشع بالفرح، رغم أن باطنه كان ليلاً من الأحزان العميقة، وكان يداري أحزانه، ويخفيها عن الناس، ويصنع منها ابتسامة ساخرة، ويظهر على الناس بوجهه الضاحك كل يوم."
ورثاه الشاعر "فاروق جويدة" قائلاً: "لقد أحدث انقلابًا في الأغنية المصرية، فخلع عنها الكثير من أناقتها المزيَّفة، وجعل منها ثوبًا واسعًا جميلاً يرتديه كل الناس على اختلاف مواقعهم وأفكارهم ولون جلودهم. لقد عاش صلاح جاهين للفن.. لمصر في كل محنها، وانتصاراتها، وأمانيها. فكان صوتًا مصريًا، وطنيًا، صانعًا، مليئًا بكل ما حمل نهر النيل من صدق وعطاء".
بينما وصفه صديقه الفنان "سيد مكاوي" قائلاً: "كان هرمًا من الفن؛ وذلك لأن صلاح جاهين شخصية لا يمكن أن تتكرر في الشعر، أو الرسم، أو الأغنية".
وأخيرًا بمشاعر الابن قال عنه الشاعر "بهاء جاهين": "كان معجونًا بطين البشرية، كان شديد الحب لكل من حوله، سريع التأثر. حينما يعشق.. يعشق حتى النخاع، وحينما يكره.. لا يمكن أن يعود لسابق عهده".
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com