"افعل ما تحب فقط" أعتقد أن تلك هي المقولة التي كانت عالقة بذهن حسين الإمام طوال حياته، هو الرجل الفنان الذي عاشها بالطول والعرض، مثّل وغنّى ولحّن وعزف ورقص وصوّر وأخرج، فعل كل ما أحب وأراد فعله بإخلاص طفل يستمتع بأوقات مرحه الطفولية.
كان الفن لعبته الأثيرة، فمثل الأطفال فعل، كان يوما يتقمص شخصية ممثل ليصبح ممثلا فعلا، ويوما ملحنا ليكون ملحنا لا يشق له غبار، ويوما عازفا أو مطربا، كان يلهو دون أن يدري أنه بلهوه هذا كان يصنع "خلطة سرية" من البهجة تصيب كل من يشاهده أو يسمع صوته.
الراوي العليم "أوي" بالأشياء
حوالي 90 دقيقة قضيتها في حضرة ومعية المبهج الأجمل حسين الإمام، فجأة حينما سمعت صوته في بداية الفيلم تسللت دمعة حزن غابت في ابتسامة واسعة ظلت على وجهي طيلة الوقت، لا أفهم السر في أنه كلما جاءت سيرة حسين الإمام أو سمعت صوته أو موسيقاه ابتسم رغما عني، كل الصدق الذي كان يلهو به، بألعابه كان يصب تلقائيا في روحي، لذلك يظل حسين الإمام أكبر بكثير من حضور طاغ أو موهبة جبارة في الموسيقى أو التمثيل.
حسين "البهجة" الإمام رفض أن يغادر عالمنا إلى البراح الأوسع دون أن يترك لنا ما يكفي الرحلة ويفيض من البهجة والسعادة، على هيئة فيلم سينمائي وهو "زي عود الكبريت"، الفيلم الذي انتقم فيه حسين الإمام من أغلب كليشيهات السينما المصرية والتي "بالمصادفة البحتة" كانت موجودة في أفلام أخرجها والده حسن الإمام.
حسين الإمام يفتتح فيلمه بصوته لندرك من اللحظة الأولى أن التعليق الصوتي أو الراوي سيكون هو محرك الأحداث وصاحب الدور الأكبر في الفيلم، فهو لم يترك مجال للصورة أن تتحدث فقط دون الصوت، وهذا منطقي وإن كان بعيدا عن قواعد السينما التي نعرفها كونها فن مرئي بالأساس، ولكن من قال أنه يمكن أن نطبق قواعد السينما بحذافيرها على تجربة "زي عود الكبريت" اتفقنا أن حسين الإمام الآن يلهو، ويقدم فيلم "بارودي" حقيقي ومصري دون افتعال أو تصنع، لذلك وجب علينا التعامل مع هذا الشريط السينمائي من تلك الزاوية، إننا أمام فيلم ساخر وليس فيلم كوميدي، والفرق بين الكوميديا والسخرية كبير جدا.
حينما يلهو الإمام
حسين الإمام في فيلمه يقدم عرضا ساخرا لكل كليشيهات السينما المصرية تقريبا، بداية من السرد وشكل الفيلم نفسه والذي عبارة عن "كولاج ومردات" بين حوار كتبه حسين الإمام وجمل حوارية في أفلام مصرية قديمة، شكل كتابة السيناريو نفسه يطابق أفلام كثير للسينما المصرية، وكأنه حاكى طريقة الكتابة للسينما في وقتها من حيث بداية وتصاعد كل مشهد وصولا للجمل الحوارية في الفيلم، إذا ما حدث ليس مجرد مصادفة، هذا الرجل جلس طويلا يتأمل ما يراه في أفلام زمان ليعرف كيف يكتب فيلما بهذا الشكل.
ويمكن أكثر ما يثبت ان ما قدمه حسين الإمام ليس مصادفة على الإطلاق أو حتى لهو طفل كبير، وانه أمر تم التخطيط له وتنفيذه بحرفية عالية وفق ما تيسر له من إمكانيات هو اختيار زوايا التصوير للمشاهد، والتي أيضا تحاكي إن لم تكن تطابق نفس الزوايا التي كان يستخدمها حسن الإمام –والده- في أفلامه، فزاويا مشاهد السيارة أو زوايا مشاهد الحوارات الثنائية كانت مطابقة لنفس المستخدمة في هذا الشكل من السينما إضافة لحرصه الشديد على أن تكون الكادرات متوازنة، أن يقف هو في نفس المكان الذي يقف فيه الممثل في المشهد القديم، ولكن ذلك لم يكن ممكنا في كل المشاهد، فبعض المشاهد اختل توازن الكادر واختلفت اتجاهات نظرات الممثلين ولكنها مشاهد بسيطة ومعدودة، يمكن أن تمر مرور الكرام دون ان تحدث أي تشتيت للمشاهد، خاصة في ظل وجود حوار حسين الذكي وتعليقاته الخاطفة.
حسين قضى وقتا طويلا في اختيار الأفلام والمشاهد التي سيتم استخدمها من أفلام والده، لتخدم الحبكة والحدوتة التي أراد أن يرويها، واستخرج منها الشخصيات التي يريد ان يتعامل معها حسين الإمام، ولا عجب استخدامه المختلف لأسماء الشخصيات، ففاتن حمامة هي أمال بالتأكيد يمكننا أن نعدد أكثر من 10 أفلام كان اسم فاتن حمامة فيها "أمال" و عماد حمدي هو "أنيس" نفس اسم الشخصية التي قدمها حمدي في ثرثرة فوق النيل مع حسين كمال، وماجدة الخطيب " أنيسة" وهي نفس الشخصية التي قدمتها في "بنت من البنات" ويوسف شعبان هو "سرحان البحيري" الشخصية التي قدمها في ميرامار، وهكذا تجد أن الأسماء التي اختارها حسين لشخصيات الفيلم هي أسماء علقت في ذهن ووجدان المشاهد المصري.
التلقائية تنتصر دائما
وعلى جانب أخر الشخصيات المضافة إلى الفيلم مثل المساعدين الأول كان يدعى "زكي بشكها" ليتحول بعدها ل "منقي" بينما يتحول المساعد الثاني من إيزاك عنبر إلى " خيار"، بمنتهى التلقائية لا يتوانى حسين الإمام طيلة الفيلم عن تقديم كوميديته الخاصة، كوميديا بسيطة وتلقائية كوميديا رجل يجلس يشاهد هذا المشهد ويعلق عليه، ربما كان المثال الأبرز على ذلك مشهد " الخناقة بين الضابط وفاخر فاخر" والذي صاحبه تعليق حسين الإمام " خد لوكامية، كمان لوكامية، خد شلوت خد شلوت، انزل تحت، اقلع الطربوش إنت إيه لازقه بغرا" في ملاحظة شديدة الذكاء حيث تدور مشاجرة بالأيدي بين فاخر فاخر والضابط لمدة دقائق يسقط فاخر فاخر فيها مرارا وتكرارا و يتدحرج على السلم و"يتشال و يتهبد" دون ان يقع طربوشه عن رأسه، حسين هنا يسخر من والده بكل ما اوتي من طفولة.
إذا كان الفيلم قد صنع في رأيي الشخصي لأن حسين الإمام أراد أن يصنعه دون أن يحاول تضمينه رسالة أو فلسفة أو أو أو، فقط هو أراد أن يقدم تحية خاصة بطريقته لزمن الفن الجميل ونجومه، وأيضا انتقادا طفولي شديد الذكاء للسينما المصرية في الخمسينات والستينات، إلا أن الفيلم لا يخلو من بعض التلميحات السياسية والفلسفية شديدة الذكاء والحدة "يموت الزمار"، وإذا كانت السينما صناعة صعبة ومرهقة، فأن تصنع فيلما مبهجا ممتعا، هو تحدي لا يقدر عليه أي سينمائي، ويحتاج للعديد من المقومات ولكن الأهم من كل تلك المقومات والعناصر الفنية، أن البهجة والسخرية يحتاجان في الأساس إلى ذكاء شديد، وموهبة غير محدودة، وتلقائية وصدق لا يحمله إلا الأطفال، لذلك كانت كل تلك البهجة في العبة الأخيرة التي لعبها معنا حسين "البهجة" الإمام، في فيلمه "زي عود الكبريت" قبل أن يودع طفولته ويودعنا، ونحن لا نملك إلا أن نبتسم حينما نراه أو نسمع صوته أو موسيقاه.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com