بقلم : د. عبدالخالق حسين
الجزء الأول
(الطائفية السياسية ومشكلة الحكم في العراق-12)
لستُ في معرض المقارنة بين الأديان والمذاهب، وأي دين أو مذهب أفضل أو أصح من الآخر، فهذه الأمور ليست من مهمة هذا الكتاب، ولا من اهتمامات الكاتب، وإنما الغرض الرئيسي من هذا البحث هو إثبات ما يلي: أولاً، أن هناك من يمارس سياسة التحريض والتكفير والتحقير في البلدان العربية والإسلامية وبدوافع طائفية، ثانياً، لنثبت أن نزعة التشكيك والطعن بهذا المذهب أو ذاك يؤدي إلى تأجيج الصراع وإشعال الفتنة بين أتباع المذاهب المختلفة في الشعب الواحد، وبالتالي حرمانهم من حياة هادئة مستقرة. وثالثاً، إقناع المتخاصمين بأن الاختلاف الديني والمذهبي مسألة طبيعية وحتمية لا بد منها، ويجب تقبلها والتعايش معها بسلام وإلا مصيرهم الانقراض، إذ كما جاء في القرآن الكريم: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين." (هود/ 118)، وأن الله تعالى وحده يقرر أي دين أو مذهب أصح من الآخر وذلك في يوم الحساب، حيث قال: "إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون». (المائدة: 48).
ذكرنا في الفصل السابق عن حملة التشكيك في عروبة شيعة العراق، ولكن الحملة لم تقتصر على هذا الجانب فحسب، بل وتعدت إلى التشكيك بإسلام الشيعة في العالم بصورة عامة والذين يشكلون نحو 20% من المسلمين، والغرض من اتهامهم بالانحراف عن الإسلام الصحيح وبالشرك، وتشويه صورتهم هو لتبرير إبادتهم. ولم تقتصر الحملة على الطائفيين في العراق، بل وتعدتها إلى بلدان عربية أخرى مثل مصر، ناهيك عن حملة الوهابية في السعودية والدول الخليجية الأخرى.
ففي الثلاثينات من القرن العشرين نشر الباحث المصري، الدكتور أحمد أمين كتابه (ضحى الإسلام) وصف فيه المذهب الشيعي بأنه مزيج من المجوسية واليهودية والنصرانية والشعوبية، مما دفع أحد أئمة الشيعة في النجف الأشرف وهو الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، إلى تأليف كتاب عنوانه: (أصل الشيعة وأصولها) للرد على هذه الاتهامات، وبعث بنسخ منه إلى جامع الأزهر الشريف. ولما اطلعوا على حقيقة الأمر ندموا على ذلك، وشكلوا وفداً يضم الدكتور أحمد أمين أيضاً، متوجهاً إلى النجف للاعتذار عما ورد في كتابه. وفي لقاء النجف، ولما عاتبهم الشيخ كاشف الغطاء على ذلك، أجاب الدكتور أحمد أمين أنهم ما كانوا يعرفون أي شيء عن الشيعة. فرد الإمام كاشف الغطاء على ذلك قائلاً: "عجيب أمرهم، القوم لا يعرفون عنا أي شيء ولكنهم يقولون عنا كل شيء". (الإمام محمد حسن كاشف الغطاء، أصل الشيعة وأصولها). والجدير بالذكر أن الدكتور أحمد أمين ألف كتاباً آخر في الخمسينات، بعنوان (يوم الإسلام) تراجع فيه عن الكثير مما قاله بحق الشيعة.
لا نريد هنا تفنيد أقوال الدكتور أحمد أمين في كون مذهب الشيعة مزيج من ديانات أخرى، فهذه التهمة يمكن تطبيقها على الإسلام نفسه، لأن الإسلام أخذ الكثير من اليهودية، والمسيحية، والصابئة، أي اعتبر مكملاً للأديان السماوية التي سبقته، ولذلك أكد القرآن على قدسية هذه الأديان واعترف بأنبيائها، واحترم أتباعها، وفيه الكثير مما ورد في التوراة والأناجيل. فهناك آيات كثيرة تؤكد ذلك نكتفي بذكر واحدة منها على سبيل المثال لا الحصر مثل قوله تعالى: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون." (سورة البقرة، الآية 62).
المشكلة هنا لدى الإسلام السني، أن حملة تكفير وتحقير الآخر (الشيعة وأتباع الديانات الأخرى) ليست جديدة، بل كانت موجودة ومستمرة لقرون عديدة، والتاريخ ملوث بالعار والشنار باضطهاد الشيعة وغيرهم من فرق المسلمين وغير المسلمين، لذا فإن ما يحصل اليوم من حرب الإبادة الجارية ضد الشيعة والمسيحيين وغيرهم في العراق وبلدان أخرى، هو نتاج تراكمات تراث تحريضي تكفيري ضد الآخر المختلف لقرون عديدة. وقد برزت حملة التكفير والأعمال الإرهابية بشكل واضح الآن نتيجة لما وفرته التكنولوجية من وسائل الدمار، وسهولة صنعها والحصول عليها، مثل المتفجرات والمفخخات، وكذلك الثورة المعلوماتية التي سهلت عملية نشر ثقافة التكفير والتحريض، وشحن الشباب المسلم الجاهل بالكراهية، وغسل أدمغتهم بالنصوص التي تدعو إلى العنف وتفسيرها خارج سياقها الزمني، وتحويلهم إلى روبوتات وقنابل بشرية تقوم بتنفيذ هذه التعاليم التدميرية في قتل الأبرياء من أتباع الدينات والمذاهب المختلفة. لذلك نرى من الضروري تسليط الضوء على هذا الجانب من المشكلة، ومعالجته لا تركه خوفاً من أن توجه لنا تهمة الطائفية.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com