منذ أن أعلن الرئيس التركى رجب طيب أردوغان فى يوليو قبل الماضى إنهاء الهدنة مع الأكراد ووقف التفاوض مع حزب العمال الكردستانى، وتركيا تخوض حرباً شرسة ضد الأكراد الذين يزيد عددهم على 15 مليون نسمة، ويسكنون جنوب شرق تركيا قريباً من الحدود السورية ويتطلعون منذ زمن إلى نوع من الحكم الذاتى يمنحهم بعض الحقوق الثقافية كما حدث مع كردستان العراق إبان فترة صدام حسين، لكن تركيا تنكر عليهم هذا الحق، وتخوض ضدهم حرباً ضروس على امتداد ثلاثة عقود، سقط فيها أكثر من 40 ألف قتيل من الجانبين، إلى أن أطلقت حكومة حزب العدالة والتنمية الذى يرأسه أردوغان مبادرة سلام حصد بسببها أصوات الأكراد، وتمكن حزب الشعب الديمقراطى الكردى من الحصول لأول مرة على أكثر من 10% من أصوات الناخبين الأكراد، مكنته من أن يحصد 80 كرسياً فى البرلمان التركى على حساب حزب العدالة، الذى فاز بالأغلبية المطلقة دون أن يتمكن من الحصول على أغلبية الثلثين التى تمكنه من كتابة دستور جديد للبلاد، يغير نظام الحكم فى تركيا إلى النظام الرئاسى، ويعطى للرئيس رجب طيب أردوغان سلطات شبه مطلقة، تخشى المعارضة التركية من أن تجعل منه ديكتاتوراً يرفض كل رأى مخالف.
والحق أن تجديد الحرب التركية الكردية كان مفاجأة لكثيرين اعتقدوا أن الهدنة المؤقتة غيرت قلوب الجانبين الكردى والتركى الذين نعموا لأول مرة منذ عقود بسلام يقترن بآمال كبار فى أن تجد المشكلة الكردية أخيراً حلها الصحيح عبر التفاوض، وأن الطرفين الكردى والتركى تعلما الكثير من أخطاء الماضى، لكن مع الأسف ما لبثت الحرب بين الجانبين أن عادت إلى ذراها السابقة عام 1993، مدافع الهاوزر التركية تضرب من وراء الحدود تجمعات الأكراد حول مدينة كوبانى وقراها، بينما تقصف الطائرات التركية مواقع حزب العمال الكردستانى شمال العراق والقرى الكردية فى جنوب شرق تركيا، ليرد الأكراد بعملية تفجير ضخمة تضرب قلب مدينة إسطنبول أو مدينة أنقرة، يسقط فيها المئات من القتلى والجرحى فى حرب عشوائية، سببها الأول غرور أردوغان وحماقته ورغبة المقاتلين الأكراد الملحة فى تدمير حكمه وإثبات عجزه والانتقام العاجل من أفعاله.
ولا ينسى الأكراد إصرار أردوغان على رفض دخول مقاتليهم إلى مدينة كوبانى لإنقاذ أهلها من سيطرة داعش، خاصة أن الأكراد مقاتلون أشداء حرروا مدينة كوبانى وطردوا داعش من كل حدودها، ويحاربون الآن إلى جوار التحالف الغربى لاستعادة مدينة الرقة السورية التى أعلنها أبوبكر البغدادى عاصمة لخلافة داعش، وقد نجحوا فى نسج علاقات تحالف مع الأمريكيين، ويعرفون كيف يخاطبون الروس، وتربطهم علاقات قوية بعرب المناطق التى يسكنونها، ويعترف الجميع بأنهم أشرس المحاربين الذين وقفوا فى وجه داعش، على أمل أن ينتصر المجتمع الدولى لحقهم فى إقامة نوع من الحكم الذاتى داخل حدود سوريا، الأمر الذى يرفضه على نحو مطلق رجب طيب أردوغان الذى يمكن أن يدخل فى حرب شاملة ضد هذا الهدف، لأن الأكراد الأتراك يشكلون أكثرمن 15 مليون نسمة، وهم أكبر تجمع كردى فى الدول الثلاث، تركيا وسوريا والعراق.
ويعتمد الأكراد فى حربهم ضد أردوغان على أساليب حرب العصابات، لا يهمهم احتلال الأرض أو التمسك بها، وغاية ما ينشدونه أن تجىء ضربتهم مفاجئة وموجعة، وعلى امتداد الفترة ما بين يونيو وأغسطس وجه الأكراد 90 هجوماً على مراكز وأهداف الدولة التركية أدت إلى مقتل أكثر من 30 من رجال الأمن وأكثر من 12 مدنياً، وهم يركزون ضرباتهم فى مناطق الحدود وخطوطها الأمامية، حيث تسكن غالبيتهم، يستهدفون رجال الأمن والشرطة والحرس الوطنى، ويقيمون المتاريس والمخابئ والتحصينات لتعيق أى هجوم مضاد محتمل من جانب القوات التركية على هذه المناطق التى تفرض عليها الحكومة التركية حالة الطوارئ على نحو مستمر، تجيز للمحافظين وحكام المدن تهجير قرى بأكملها وتوسيع نطاق عمليات الاشتباه والاعتقال دون حدود، وإعلان مناطق بأكملها مناطق محظور دخولها على المدنيين، والرقابة المستمرة على تحركات الأفراد والجماعات، كما يملك الأكراد قدرة الوصول إلى المدن الكبرى خاصة إسطنبول وأنقرة.
حيث تركز عملياتهم على ضرب مؤسسات الدولة وتكبيدها خسائر اقتصادية ضخمة فى عمليات خاصة مفاجئة تستهدف تدمير مكانة الدولة وإحداث أكبر كم من الخسائر البشرية.
وعلى حين يزداد الأكراد قوة، ويزيد عدد أصدقائهم على المستويين الوطنى والإقليمى، يكابد الرئيس التركى خسائر ضخمة متوالية جعلته فى حالة عزلة، ينتقد الجميع تصرفاته وقراراته ابتداء من الروس الذين يقاطعونه منذ حادث إسقاط الطائرة الروسية ويمتنعون عن التجارة معه ولا يسمحون لمواطنيهم بالسياحة فى تركيا، إلى الأمريكيين الذين يعارضون مجمل سياساته تجاه الأكراد ويرفضون السماح له بإقامة منطقة عازلة شمال سوريا خوفاً من حماقاته رغم إلحاحه المستمر على ضرورة إقامتها، إلى العرب الذين يتوجسون خوفاً من أهدافه منذ أحداث الربيع العربى وأولهم السوريون الذين يعتبرونه عدوهم الأول رغم وجود ما يزيد على مليون لاجئ سورى فى مناطق الحدود السورية، والمصريون الذين يعتبرونه أكبر المتآمرين على أمن واستقرار مصر، وأكبر المساندين لجماعة الإخوان المسلمين وتنظيمهم الدولى.
وبسبب سياسات أردوغان خسر الأتراك نسبة كبيرة من تجارتهم الدولية خاصة مع العرب والروس، وخسروا الكثير من مكانتهم الدولية إلى حد فشلهم فى الحصول على مقعد فى مجلس الأمن، ويكاد يكون أردوغان هو مشكلة تركيا الأولى والأخيرة لأنه أدخل بلاده فى شبكة معقدة من المشاكل الصعبة لا تقوى تركيا على مواجهتها مجتمعة، وأكثر ما يخشاه الأتراك الآن أن يقامر أردوغان بالدخول فى الحرب الأهلية السورية طرفاً مباشراً، الأمر الذى أدى إلى وقوع نوع من الاستقطاب الحاد يكاد يقسم البلاد نصفين.
مع أردوغان وضد أردوغان، بما أضر بتماسك الجبهة الداخلية، لأن أردوغان يرفض كل رأى مخالف ويعتبر نفسه فى حالة حرب مع كل من يخالفه الرأى، سواء من رجال الأحزاب والسياسة أو العاملين فى الصحافة والإعلام أو الأكاديميين أساتذة الجامعات الذين اعتقل أردوغان قادتهم، لأن أكثر من مائتى أكاديمى وجهوا له عريضة تحذره من الدخول فى الحرب السورية.
والآن يحاول أردوغان إسقاط شرعية الحزب الكردى الوحيد داخل البرلمان التركى الذى حصل فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة على أكثر من 10% من مجموع أصوات الناخبين الأتراك، على أمل أن يفقد الحزب الكردى هذه الأصوات التى يمكن أن تذهب لحزب العدالة والتنمية وتمكنه من الحصول على أغلبية الثلثين التى ينشدها بما يمكن أردوغان من كتابة الدستور الذى يريده.
لكن الحقيقة المهمة التى لا يستطيع أردوغان إنكارها، أنه عرّض بلاده لحجم ضخم ومتزايد من العنف أكبر كثيراً من قدرة تركيا على التحمل، وأضعف مكانتها الدولية إلى حد لم يعد لكلماتها أى وزن أو صدى حقيقى، وربما يكون خطأ أردوغان الأكبر أنه بعدائه الشديد للأكراد وحربه المستمرة على قراهم وتجمعاتهم داخل تركيا وسوريا وفظاظته فى التعامل مع مطالبهم الوطنية، خلق داخل الأكراد إحساساً متزايداً بالتحدى وضرورة التمسك بمطالبهم فى تحقيق الحكم الذاتى مهما تكن النتائج، كما تسبب أردوغان فى إضعاف أمن واستقرار بلاده بمعاداته لأكثر من 15 مليون كردى يعيشون فى تركيا، لا يعدمون المساندة القوية من أبناء عمومتهم الأكراد فى سوريا والعراق.
ويحظون بصور عديدة من العون والمساعدة الدولية، بحيث لم يعد أمام الحكومة التركية سوى أن تختار السلام مع الأكراد لتكسب استقرار وأمن تركيا، أو تمضى قدماً فى نهجها الراهن الذى يقود بالضرورة إلى تدمير الدولة التركية وتفكيك جبهتها الداخلية.
نقلا عن الوطن
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com