قال لى شاب وهو يحاورنى: من الضرورى أن ترسل قناة الجزيرة وأخواتها رسالة شكر إلى من يحكمون مصر الآن. سألته: لمَ؟ وكان فى ذهنى ما سيجيب به، لأنه بات واضحا عيانا بيانا، لكنى انتظرت أن أسمع منه، فهز رأسه وقال: كنت قد ألغيتها منذ ثلاث سنوات تقريبا، ولم أعد أشاهدها، لكن وجدت نفسى مضطرا إلى إعادتها قبل أيام، رغم علمى بدعايتها السوداء، ومعها استعدت حوارييها مثل «الشرق» و«مكملين» و«العربى» وهلم جرا؟ سألته: ما الذى دفعك إلى هذا؟ فأجاب على الفور: حين يمنعون الأصوات الحرة، والمختلفين مع السلطة لكن على أرضية وطنية، وحين ينزعون السياسة من كل شىء، ويحولون الفضائيات إلى أبواق، ويختارون منافقين ومداهنين وفئران سفن ليدافعوا عنهم، فهم يسلموننا إلى «الجزيرة» وأخواتها، والغريبة أنهم يصدعون رؤوسنا ليل نهار، بحديث مستفيض عن «حرب الجيل الرابع»، دون أن يدركوا أنهم هم من يصبون على نارها الزيت كلما خبت. الأغرب أن مذيعا مرموقا فى «ماسبيرو» همس لى بالأمر نفسه قائلا: استعدت «الجزيرة» بعد إلغائها، لأننى أريد أن أسمع وأرى شيئا مختلفا. قلت له: مرر كل ما تسمع وترى على عقلك، حتى لا تقع فى فخ الدعاية السوداء، إلى أن يفهم أعداء حرية التعبير أنهم يعملون لصالح من يصفونهم بأعدائهم، وهذا والله ما يجعل الحليم حيرانا، لكن هذا هو حصاد العجلة وقلة الخبرة والتجبر.
( 2 )
سألنى شاب آخر استوقفنى قبل يومين فى ميدان «عبدالمنعم رياض»: هل يظنون أننا لم نُفطم بعد؟ أو أننا بعنا عقولنا إلى الأبد؟ ابتسمت وسألته: ما الذى دفعك إلى قول هذا؟ فأجاب: حفظنا طرقهم العقيمة فى إلهائنا عن القضايا الحقيقية، فلا قضية نقابة الصحفيين الذين يبدون حرصا على تأجيجها، ولا قضية اعتداء بلطجية على مقر نقابة المحامين فى طلخا، ولا أزمة الإبراشى شوبير الطيب، ستجعلنا ننسى المشكلة الرئيسية، و«تيران وصنافير مصرية». قال هذا، وشد على يدى، ثم مضى فى طريقه صامتا.
( 3 )
قبل عشرين شهرا كنت فى زيارة لإحدى قرى الغربية فى ضيافة واحد من السياسيين الوطنيين والمحترمين. استقبلنى على باب القرية، وهمس فى أذنى: أعرف أنك لم تصوت للسيسى فى الانتخابات، وأنك قلت: أن هذا راجع لما تعرفه وما تقدره، لكن أرجو منك ألا تنتقده، حتى لا يغضب منك الحاضرون، وكلهم من محبيك.
قضينا الجلسة فى حديث عام عن الأمنيات، وكان التفاؤل أوشك على أن يدفعهم إلى الرقص فرحا وامتنانا. بعد سنة زرت القرية نفسها، فوجدتهم ينصتون إلى كل ما أبديه من ملاحظات على أداء السلطة الحالية، ويهزون رؤوسهم موافقين. قبل أسابيع قليلة، زرت القرية نفسها، وجلست معهم هم أنفسهم، فوجدتهم ينتقدون بشدة، وأنا الذى أسمع، وأقول: سبحان مغير الأحوال.
( 4 )
هناك فيديو على «اليوتيوب» لشاب يهاجم بقوة السلطة الحالية فى عربة مترو، والناس ينصتون إليه بإمعان. لم يتهمه أحد بأنه «خائن» ولا «عميل» ولا «إخوان» لأنه فى الحقيقة ليس كذلك. ولم يقم أحد ليضربه أو ينهره ويجبره على الصمت. وبانت أصوات مختلطة تبين تعاطفها معه. وبينما كان يستعد للنزول فى إحدى المحطات اقترب منه رجل مسن ونصحه «خد بالك من نفسك يا بنى».
هذه الصورة تختلف عما يسوقه بعض مذيعى الفضائيات ممن ينتظرون على باب كل مساء الأوامر التى ستهبط على رؤوسهم ويقولون لها بملء أفواههم، وبكل رؤوسهم التى تصفر فيها الريح: سمعا وطاعة. وتختلف عن استطلاعات مركز «بصيرة»، وعن مقالات وتصريحات من يحلسون فى المكاتب ويرون الشوارع من خلف زجاج معتم لسياراتهم الفارهة، وعن تصورات أهل الحكم الذين يظنون أن كل شىء لا يزال ملك يمينهم.
( 5 )
عاتبنى بعض القراء على توقف عمودى «ضمير» فى جريدة الوطن ابتداء من الأول من يونيو الجارى لأنه كان يحمل أحيانا شكاوى البسطاء إلى من بيدهم القرار. وظن هؤلاء أننى قد امتنعت عن الكتابة بقرار حر منفرد، فقلت لهم: طلب منى القائمون على الصحيفة أن أتوقف، وقالوا إن ظروفا مالية دفعتهم إلى هذا القرار، فابتسمت وقلت لهم بكل جدية: الكتابة لدى رسالة بالأساس حتى لو كنت أتقاضى عليها مكافأة مالية تعيننى على العيش، وأنا مستعد أن أوقع معكم عقدا على أن أكتب بلا مقابل إلى أن تتوقف الجريدة عن الصدور، لا قدر الله، أو يتوفانى الله، وكل الأنام إلى ذهاب، لكنهم لم يقبلوا هذا العرض، لأن سبب منعى من الكتابة فى الجريدة لا علاقة له بالمال، وهم يعرفون هذا. والصحفيون بالجريدة، كبارا وصغارا، كلهم أصدقاء أعزاء، ولو كان الأمر بأيديهم ما أقدموا على هذه الخطوة أبدا، لكن للجريدة صاحب لا يريد أن تجر عليه متاعب، وأنا من الذين تعودوا على أن يلتمسوا للناس أعذارا، ولا يزايدوا عليهم.
وقد عرفت من مصادر موثوق بها أن هناك توجيها بتوقف عمودى اليومى. والقائمون على الجريدة لم يفصحوا لى عن شىء بهذا الخصوص، ولم أطالبهم، ولن يحدث، وكل ما تردد فى الأيام الفائتة عن سبب المنع، لم يجر على ألسنتهم، ولا علاقة لهم به، وأنا فقط المسؤول عنه. وهم فى حقيقة الأمر كانوا حريصين على أن أبقى، لكن الأمر ليس بأيديهم.
وما كنت أعدهم به ليس جديدا بالنسبة لى، فقد سبق لى أن كتبت متطوعا مرات عدة، الأولى امتدت سنتين لجريدة قلت لصاحبها: سأكتب لك مجانا إلى أن تقف على قدميك وساعاتها لن أطلب منك أجرى بأثر رجعى أبدا. والثانية طلبت أن أكتب ثلاثة أشهر بلا مقابل حتى تتحسن ظروفها المالية، وفعلتها، لكن حين جاءنى خبر من مصدر قريب من دوائر السلطة بأن القائمين على الجريدة طلب منهم هذا حتى يهرب الكتاب الذين لا تروق أقلامهم لأهل الحكم، وأنهم كانوا بصدد الاعتذار لنا عن عدم نشر مقالاتنا حتى لو استمررنا فى إرسالها لهم، دون أن ننتظر أى مقابل مادى، اتخذت قرارا بالتوقف احتراما لنفسى، وشفقة عليهم.
وطالما نشرت مقالات فى صفحة مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية بصحيفة الأهرام قبل ما يزيد على عشر سنوات بلا مقابل، ونشرت سلسلة من المقالات فى جريدة «القاهرة» أيام أن كان يرأسها الأستاذ صلاح عيسى، ولم أتسلم مكافأتى البسيطة، لأنى كنت لا أريد أن أحصل على أى شىء من وزارة الثقافة أيامها، وطالما نشرت دراسات ومقالات فى صحف ودوريات حكومية وأهلية، وحضرت ندوات ومؤتمرات أعددت لها أوراقا بحثية، وتجولت فى نحو مائة قرية على مدار السنوات العشر الأخيرة لعقد ندوات فى التثقيف السياسى وفى الأدب، بلا مقابل. وظهرت مئات المرات فى تليفزيون الدولة وإذاعتها واقتطعت من وقتى وجهدى، وأنا المتفرغ للكتابة ولست فى وظيفة حكومية أو غير حكومية الآن، لأننى أؤمن بواجبى حيال الناس، الذين تعلمت حتى الدكتوراه من حصاد جهدهم وعرقهم، وحقهم عليَّ ألا أكتمهم علما أعلمه، خاصة أننى أستفيد منهم كما يستفيدون منى. وإذا كانت بعض الفضائيات قد دفعت لى مكافآت رمزية، يذهب جزء كبير منها على شراء الكتب، فبعضها لا يدفع، وأنا عادة لا ألح فى هذا، لأنى أؤمن أن للناس فى عنقى دين لابد أن أؤديه، وأن للوطن حقا من الضرورى ألا أتاخر فى الاستجابة له.
تفهم الذين عاتبونى موقفى وتعاطفوا معى، وأعدهم ألا أتوقف عن الكتابة أبدا مهما ضيقوا المنابر، وألا أنحاز إلا لما يمليه على ضميرى دون تردد، ولا تحسب، ولا خوف، وأن أفعل هذا مبتسما طيلة الوقت وأن أقول: «يا ما دقت على الراس طبول».
( 6 )
لا أحد يكره الاستقرار والأمن والسكينة، لكن الاستقرار الحقيقى هو الذى يخلقه وضوح الرؤية والشعور العام بالعدل والاطمئنان إلى مستقبل الحرية والتنمية، وليس ذلك المفروض بيد القوة الباطشة. ولا ننسى أن نظام مبارك حكمنا ثلاثين عاما باسم «الاستقرار والاستمرار» فحول الأول إلى جمود والثانى إلى قعود دائم فى الحكم، ولا يجب أن نتجاهل خبرة التاريخ التى تنبئنا بأن «الاستقرار» طالما استخدم كمصطلح سحرى للثورة المضادة.
نقلاً عن المصري اليوم
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com