بقلم : كابي يوسف
نعيش في عصور العبودية بامتياز. مساحة الزمن تمتد . الفكر يتقلص، ومابرحنا الذاكرة والمكان. كل الأشياء تكبر ووحده يصغر الإنسان. ما بال العبيد
صامتون، مستسلمون تؤرقهم مشاعر الحرية عندما تدغدغ قلوبهم البريئة. وتنغص عيشهم فوانيس النور التي تحاول اختراق الكيان. كيف ترضى يا من ولدت حراً ؟ أن تصنع لنفسك أصناماً مختلفة الأشكال والوجوه والألوان. تغيرها صباحاً ومساء بين الجماعة وأخرى في الخلاء. مع أن العبودية لا تتزين ولا تتجمل. تعلن عن ذاتها بصراحة حتى لو حاولنا إخفائها . وذلك لأن العبد لا يحب الخروج من تلك القوقعة التي رسمها حول ذاته وجلس في منتصفها معلناً نفسه سيداً على الكون وهو يحلم أحلام يقظة في كيفية استعباد كل الخليقة. كذلك فالعبودية تلد طمعاً وشهوة الاقتناء. تعظٌم المعيشة وتحطيم كل ما يمر أمامنا لكي نصل إلى مبتغانا. فالطموح لم يعد مشروعاً لأنه مغلف بالغاية التي تبرر الوسيلة. كذلك الأمر فإن العبد يحيد العاطفة الوجدانية ويُعصب فكره بعصائب التزمت والتخلف. و بدل من تنقية حواسه يحولها إلى آلات أثم تبث سموم الحقد والحسد. يستيقظ العبد صباحاً، يحمل حزن الأيام وكآبة الهم والاهتمام. يردد صلاة الضعيف وأوف التعبان. يحصي ساعات عبوديته للعمل وكلام الناس ولرغبات من يفترض أنه أخيه الإنسان. كنا فيما مضى ندرك أن الحرية انطلاق من أسر الدنيويات نحو عالم من الحب والجمال. انعتاق من التعصب الأعمى نحو تجلي الروح وانصهارها في أرواح الأحرار. لكنها اليوم حرية في المأكل والملبس وممارسة ما يحلو لنا بعيداً عن قيم ورثناها وأخلاق بذل أسلافنا الكثير حتى توجوها ملكة للحرية والأحرار. ولعل ما يثير الدهشة تلك الحرية المفرطة التي تكرس عبوديتنا للمال والأشياء وأصحاب السلطان. صارت الحياة استهلاكية، هذا الشعار حفظناه عن ظهر قلب ، لكن السلعة بامتياز هي الإنسان. يباع ويشترى. يتأرجح، يتغير ويتبدل غير آبه بكل نواميس الكون والضمير . لقد اعتدنا على ظلمة المكان و الأنفس والأبدان. فنحن عبيد لما نجهل . وما نحلم بالوصول إليه. شعارنا نحن أحرار نفعل ما نشاء حتى صرنا عبيداً لكل الأشياء. نحن أحرار نعيش كما يحلو لنا حتى صارت حياتنا علقماً وقباحة. وسوق الجواري طوقت مساحة الأرض على اتساعها. وما عادت تكفيها السراديب ولا الأماكن المظلمة العتيقة. صارت العبودية مشاعاً، توجت ملكة الزمان وسيدة الإنسان. وإن كانت الكرامة مبدأ والحياة وقفة عز وكفاح. لكننا نباع في سوق النخاسة بأرخص الأثمان. وبالمعنى الأصح نبيع ذواتنا براحة وقتية ومتع دنيوية وممتلكات باقية ونحن إلى زوال. الكثيرون لا يحبون العبودية وأغلالها لكنهم يحيونها. يدللونها من كثرة اغواءاتها وغنجها ومظاهرها البراقة. الكثيرون يكرهون السقوط، ويرفضون التعري أمام مرآة الآخرين لكنهم يفعلون ذلك بإرادة أو من غير إرادة. لقد انتشر السوس والصدأ في ثنايا الروح، كنوزنا ضاعت وليس من دليل . بات الطوفان قريب إن لم يكن ما وصلنا إليه هو الطوفان بذاته. والأمر مختلف اليوم عن أيام نوح فما نحن بحاجة لنحتفظ في قوقعتنا بأصناف من الحيوانات لأن الغرائز تملئ المكان. هي تخلق من العدم كل شر وتتفنن في إضعاف وإهلاك الوجدان. أما بعد: فأمام هذه الحال المزرية والانحدار المخيف ما عادت أنوار العالم تكفيني. بل باتت تحرك في وجعاً يدميني. أقر واعترف بأن ذنوبي كثيرة . صرت شخصاً آخر لا يعرف نفسه. بل يحتاج للعودة إليها، إلى حضن ينتشلها. تراني اليوم اشتاق لسلام الله، فلسان حالي يقول مع المرنم صرت عبداً للخطايا، غارقاً بين الدموع. صرت مأسوراً سجيناً، مكبل بقيود الزمان. ولأني أثق بأنه إن حررني الابن فبالحقيقة سأكون حراً ، فمن غير ابن الإنسان ينتشلني، ينقذني، يقبل عودتي من ضلالي ويهديني. بل يفرح بعودتي إليه ويسبيني. فارتاد ضفافه لترويني، وأنال فيض من روحه ليعزيني. يسكن فيٌ، يملأني، يغمرني حتى يحييني
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com