بقلم منير بشاى
عادت حوادث العنف الأخيرة فى العراق لتسلط الضوء على مفاهيم دينية قديمة ربما غابت عن أذهاننا فى خضم الأحداث. سؤالان يتبادران الى الذهن: أولا ما العلاقة بين سيدتين قبطيتين فى مصر وهما وفاء وكامليا بتنظيم القاعدة المسلم فى العراق؟ وثانيا لماذا هذا الربط بين الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فى مصر وكنيسة سيدة النجاة السريانية فى العراق؟
الجواب الإسلامى السلفى لهذه التساؤلات يتضح فى المبدأ الخاص بدار الحرب ودار الإسلام. ومعناه عند من يؤمنون به أن جمبع المسلمين فى كل العالم وحدة واحدة ويمثلون دار الإسلام وعلى ذلك فإن وفاء وكامليا هما جزءا من مسلمى القاعدة على إعتبار أنهما أسلمتا، حسب زعمهم. وفى نفس الوقت هم يعتبرون الكنيسة القبطية المصرية والكنيسة السريانية العراقية وحدة لا تنفصل على أساس أن جميعهم مسيحيون وجزء من دار الحرب.
أما المسيحيون فيؤمنون بمبدآ مشابه ولكن بعيدا عن العنف وتهديد الآخر. فالمسيحيون يؤمنون أن مسيحيى العالم وحدة لا تتجزأ. هم جميعا أعضاء فى جسد المسيح إذا تكرم عضو فرح له جميع الأعضاء وإذا تألم عضو تألم له جميع الأعضاء. وهذا المفهوم العام ينطبق بصفة خاصة ومؤكدة على مسيحى المشرق.
مسيحيو المشرق هم أصحاب الأرض الأصليين...بقايا الشعوب التى سكنت تلك البلاد منذ آلاف السنين وتمتد جزورهم فى كل المنطقة من المحيط إلى الخليج...ويرجع وجودهم إلى ما قبل تسجيل التاريخ...ينتمون إلى أصول إثنية مختلفة...ولكن ما يجمعهم أكثر مما يفرقهم.
عندما جاءت المسيحية منذ ألفى عام وحدت بينهم برباط المحبة الأخوية التى هى أساس الإيمان المسيحى. قبلوا الإيمان الجديد عن إختيار شخصى وإقتناع قلبى. ومن تلك البقعة نشروا هذه الدعوة إلى كل بقاع المسكونة.
ولكن بعد ستة قرون إجتاحت المنطقة جيوشا قادمة من شبه جزيرة العرب التى إحتلت تلك البلاد وأخذت تدريجيا تغيّر ملامحها وتمحو هوية شعوبها الأصليين وتقضى على لغتهم وحضارتهم. حرمتهم من حق المواطنة وحولتهم إلى ذميين لا يطمعوا بأكثر من الحياة "الصاغرة" نظير دفع "الجزية" الباهظة.
نتيجة للقمع المستمر والسيف المسلط على رؤوس الناس إضطر الكثيرون إلى الإرتداد عن دينهم وقبول ما فرض عليهم. ولكن - ومع ضراوة الإضطهاد- إستمر الوجود المسيحى رغم الثمن الباهظ الذى دفعوه من حياتهم وكرامتهم وممتلكاتهم.
واليوم، وبعد نحو أربعة عشر قرنا، يجد مسيحيو المشرق أنفسهم ما يزالوا يواجهون تحديات خطيرة تهدد وجودهم، ربما أكثر من أى وقت مضى.
أما الذين إضطروا إلى ترك المنطقة وهاجروا إلى الغرب فإن المتغيرات التى طرأت على الساحة العالمية فى السنوات الأخيرة قد فرضت ظروفا لها تأثيرها على حياتهم.
مسيحيو المشرق فى البلاد الأم
هناك ظروفا خاصة إستجدت فى العقود الأخيرة على منطقة الشرق الأوسط وكان لها تأثيرها الخطير على الأقليات المسيحية التى تعيش فى المنطقة ومنها:
• الصراع الإسرائيلى الفلسطينى الذى بدأ بعد تأسيس دولة إسرائيل ۱٩٤٨، وما نتج عن ذلك لما يراه البعض من تحيز الغرب "المسيحى" لصالح إسرائيل. ومع أن مسيحى المشرق لا علاقة لهم بهذا ولكن النتيجة أن المسيحيين فى المنطقة كلها وبالذات فى الأراضى المقدسة وجدوا أنفسهم يدفعون الثمن. وقد سبب هذا فى هجرة العديد من سكان هذه المنطقة من المسيحيين. ويرى البعض أنه إذا إستمر هذا الإتجاه فإن المنطقة التى شهدت مولد المسيح سوف تخلو من المسيحيين فى خلال بضع سنوات.
• العمليات الإرهابية من عناصر تنتمى للإسلام ضد الغرب مثل إعتداء ۱۱ سبتمبر ٢٠٠۱ وما تبعه من إعلان أمريكا الحرب على منايع الإرهاب فى أفغانستان. هذا أدى إلى نوع من التحامل على المسيحيين رأينا نتائجه فى الكنائس التى حرقت فى باكستان وجرائم القتل ضد المسيحيين بواسطة الذين يروا فى هؤلاء المواطنين فريسة سهلة وكبش فداء.
• حرب أمريكا ضد نظام صدام حسين بسبب الإعتقاد بأنه يمتلك أسلحة دمار شامل. هذه الحرب أوجدت نوعا من الفوضى فى العراق سببت معاناة للمواطنين العاديين وبالذات المسيحيين. تزايدت عمليات الخطف والرهائن وإبتزاز الأموال. كما كثرت عمليات حرق الكنائس وقتل المسيحيين. ونتيجة لذلك بدأت عمليات مكثفة من هجرة المسيحيين العراقيين والتى إن إستمرت ستهدد بالقضاء على الوجود المسيحى فى العراق.
• تزايد الجرعة الدينية الإسلامية المتعصبة فى العالم الإسلامى التى بدأت بالأخوان المسلمين. وظهور دعاة سلفيون متطرفون يبثون مبادئ تحقير معتقادات الغير وحض الناس على الكراهية والتعصب مما سبب ظهور الجماعات المتطرفة التى إستباحت أموال وحياة المسيحيين. وفى مصر إزدادت عمليات خطف البنات المسيحيات وإجبارهن على إعتناق الإسلام فى غياب إرادة رادعة من قبل الدولة. بل أن الدولة فى محاولة لإسترضاء هذه التيارات عمدت على الإبقاء على الممارسات الظالمة ضد المسيحيين مثل الخط الهمايونى الذى بعرقل من بناء وترميم الكنائس. وتهميش الوجود المسيحى فى المجالس النيابية وحرمانهم من الكثير من الوظائف القيادية العليا.
مسيحيو المشرق فى بلاد المهجر
كان من الطبيعى نتيجة للضيق الذى يعانى منه المسيحيون فى البلاد الأم أنه عندما فتح الباب لهم للهجرة فإن القادرين منهم على الهجرة إغتنموا الفرصة وكان نتيجة ذلك هناك الخشية أن يؤدى هذا إلى نوع من التطهير العرقى والدينى للمسيحيين.
ولكن من جانب آخر كانت لهذه الظاهرة جانبها الإيجابى إذ أصبح البعض ممن هاجروا صوتا ينادى بالمساواة التى يفتقر لها أخوتهم فى بلادهم الأم وبوقا يكشف تجاوزات حقوق الإنسان التى تمارس ضدهم. ومن ناحية أخرى أصبحوا موردا إقتصاديا لمساعدة الذين يعانون مرارة الحاجة.
ولكن المتغيرات الأخرى على الساحة العالمية وضعتهم أمام إشكالية جديدة. فبعد العمليات الإرهابية التى قام بها أشخاص من خلفية شرق أوسطية وتخوف الناس فى الغرب وخاصة أمريكا من كل من ينتمى إلى هذه المنطقة وجد مسيحيو الشرق الأوسط الذين يعيشون فى الغرب أنفسهم ينظر لهم بتوجس وأصبحوا بذلك جزءا من مشكلة لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
وبعد.. إن مسيحيو المشرق، سواء من يعيشون فى البلاد الأم أو الذين هاجروا للغرب، يجدون أنفسهم فى قارب واحد معا. الأمواج الهائجة تعصف بهم وتهدد وجودهم. وليس أمامهم سوى أن يتكاتفوا معا لتأمين أنفسهم وحتى يصلوا بهذا القارب إلى بر الأمان.
ولكن إلتفاف مسيحى المشرق معا كأخوة فى الإيمان لا يمنع إلتفافهم أيضا مع المسلمين المعتدلين كأخوة فى الوطن وشركاء فى مكافحة التعصب الذى يستهدفهم بالمثل.
Mounir.bishay@sbcglobal.net
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com