بقلم: نبيل المقدس
أخذت قرارا أن أبيع عربيتي الغالية جدا عليّ , حيث كافحت معي طيلة 30 سنة ... ولم تشتكي مني ... ولم تتوجع في حياتها معي ... كانت أصيلة , فلم تُحَمِلـْني بعطب مفاجيء من خلال سفرياتي الكثيرة بها , أو حتي داخل القاهرة , إلا عندما تنهي مهامها معي , وتصل بي تحت البيت ,حيث تبدأ الشكوي .
أخذت سنة تقريبا في أخذ قراري هذا ... فقد كانت العشرة والذكريات معها هي أسباب التردد في أخذ القرار . ومن شدة وجمال هذه الذكريات أحببتُ أن أشارككم معي هذه الذكريات الجميلة .
إستلمت السيارة في ليلة سفر زوجتي إلي اوهايو للدراسة لمدة حوالي 16 شهرا , وكان أول إستخدامي للسيارة هو توصيل زوجتي إلي المطار ... لا أنسي نصيحة زوجتي عندما قالت لي " أرجوك تأخذ بالك من نفسك في السواقة , الموديل ده غير الفيات " قلت لها ماتخفيش ركزي إنت في دراستك وتيجي لينا بالسلامة " ... وبالأسف الشديد بعد حوالي 17 سنة تقريبا كان آخر مشوار للسيارة مع زوجتي هو عندما أوصلتها للمستشفي لتكملة العلاج الذي لم يُكتمل والغريب أنها قالت لي نفس الجملة عندما كنا متوجهين إلي المطار " خذ بالك من السواقة " بالرغم أنها لم تنصحني أبدا علي سواقتي في الفترة مابين توصيلها للمطار وتوصيلها للمستشفي . صعبت عليّ نفسي ان أبيعها ومعها هذه الذكري الجميلة .
تعودتُ أنا وشريكي أن نستقل سيارتي عندما يستلزم الأمر وجودنــا نحن الإثنين في وقت واحد لإنهاء مهمة معينة خارج المصنع, وبمجرد أن تتحرك السيارة تتحول إلي مكان إجتماع روحي يضمنــا نحن الإثنين في حضرة الرب. وفي أثناء الطريق كنا نقوم بالصلاة والترنيم مع صوت التسجيل المُلحق بها ... وفي كثير من الأحيان يـُخرج شريكي كتابه المقدس الموجود دائما في حقيبته ويقرأ مِنهُ مقطعا من أصحاح غالبا يكون إختيارهُ عشوائيا أو أحيانا أخري طبقا لإحتياجاتنا النفسية ... ثم نبدأ التأمل والحديث الشيق حول هذا المقطع. فكـُنا نسعد بهذه الشركة الروحية, ونشعر بوجود روح الرب وهو يملأ السيارة. كانت السيارة ككنيسة متحركة لها خصائص الكنيسة التي ذكرها الله لنا في إنجيل مني 18 : 20 [ لأنه حيثما أجتمع إثنان أو ثلاثة بإسمي فهناك أكون في وسطهم.] ؟؟؟؟
لا أنسي إصرار سيارتي أن تقوم هي بالذات كل يوم أول سبت من كل شهر في إستضافة وإستحضار إحدي الكهنة أو الكارزين ومعه مُرنم صديق لي للقيام بخدمة روحية في قلب المصنع لأجل عمالنا و مندوبي المبيعات. كان هذا الإجتماع من أجمل الأوقات حيث يتمتع فيها جميع العاملين بالمصنع بشركة روحية مثمرة .
كانت تحت أوامر أصدقائي وأقربائي , ولا ترفض لهم طلب حينما يطلبونها لزفة عريس أو عروس ... كم من المرات تم تزيينها بالورود وشرائط الحرير ... كانت وقتها في عز جمالها وشبابها ... كانت بشرتها ناعمة ونضرة لذلك كان أقل تزيين لها يعطيها لمسة جمال أكثر .. مما يجعل موكب العُرس كاملا ومهيبا ومشرفا.
ياما قامت بمقام أوتوبيس مدارس ... فقد كان عليها أن تأخذ زملاء أبنائي لتوصيلهم إلي المدرسة أسبوع في الشهر ... اما باقي الأسابيع فكان من نصيب أولياء الأمور الآخرين. لكنها كانت دائما علي أهبة الإستعداد في باقي الأسابيع بأن تأخذ دور إخوتها من سيارات الآخرين لأي سبب يعطلهن عن القيام بهذه المهمة . فعلا ساهمت في تربية أبنائي تعليميا , وروحيا فقد كانت هي الوحيدة المسئولة عن توصيل ابنائي إلي مدارس الأحد من كوبري القبة حتي شبرا .
بكل سرور ورضا كانت تقبل ان تجعل من نفسها عربة خضار وبقالة ... فقد كانت زوجتي تترك عربيتها الخاصة وتحلو لها أن تأخذ عربيتي إلي السوق , وتحملها إحتياجات البيت الأسبوعي من خضار وفاكهة وبقالة , حتي اللحمة والفراخ . واتذكر إحدي المرات بدأت أشتم ريحة غريبة في السيارة , كانت تزداد يوم عن يوم ... فظننتُ أن هناك فأر دخل السيارة ولم يستطع أن يخرج ... أعطيتُ مفتاح الشنطة للسايس لكي يبحث عن مصدر هذه الريحة ... وبعد نصف ساعة جاءني السايس وفي يديه كيس يخرج منه نفس الريحة التي كنت أشمها في السيارة ... وإكتشفت أن زوجتي العزيزة نسيت إحدي أكياس اللحمة في شنطة العربية بعد ما إتهمت قبل عدة ايام الجزار انه أخبأ عنها هذا الكيس . أخذت التليفون وإتصلت بالجزار لأعتذر له. قاست عربيتي الكثير ... تحملت الكثير من أخطائنا ... تحملت طموحاتنا ... تحملت الأمطار ... تحملت المطبات والبرك المائية ... تحملت خبطات العربات الأخري نتيجة المستوي الأخلاقي لبعض الناس والذي وصل إلي حد التدني ... تحملت الغرامات نتيجة تعسف رجال المرور , وتسجيل المخالفات عمّال علي بطـّال ... كنت أشعر بحـُزنِها عليّ والإحراج مني عندما كنت ادفع الغرامات ... كانت تشعرني انها هي السبب وتقول لي : صدقني مش بإيدي " عجلة القيادة في إيدك إنت " .
جاء اليوم التي كانت تنتظرهُ لكي تتزيـّن بأجمل الورود لكي تزف إبني في يوم فرحه ... لكنها فـُوجئتْ بأن إبني يأتي بعربة طولها ماشاءالله 4متر إستأجرها من معرض لهذا الغرض ... نظرت إلي نفسها وقارنت نفسها بالعربات الجديدة , فتحسرت علي نفسها ... فقد كانت تحلم بأن تزف هذا الطفل الذي اشتركت في تربيته ورأته وهو يكبر ... تذكرتُ أنها كانت تختلس وقوفها أمام البيت وتنادي علي إبني لكي تعلمه السواقة ... حتي أصبح متمكنا وإحتفلت به عندما إشتري أول سيارة له نصر 127 , وأخذتها في حضنها تراعيها وتدربها علي كيفية التعامل مع صاحبها . وجاء وقت الزفة فوجدت نفسها في آخر الموكب , بعد ما كانت دائما في مقدمة الموكب ... وتكرر نفس الحدث في فرح إبنتي .. من بعدها إنكسرت نفسيتها ... وإكتشفت من ينافسها بل ووجدت الأجمل والأسرع والأريح منها . ولأول مرة تعرف كلمة " الـ فول أوبشان " حيث إحدي مميزاتها أن زجاجها يعمل أوتوماتيك ... فنظرت هي إلي زجاجها ... فوجدت أغلب ( الأوكر ) غير موجودة ... كما إتحسرتْ علي أبوابها ... فمنها ينفتح من الداخل والآخر ينفتح من الخارج ومنها لا ينفتح من الداخل ولا الخارج , بل أصبح حائطا سد.
مرت السنون بي وكبرتُ ... وشاختْ معي السيارة ... لكنها كانت ومازالت قوية وتقوم بواجباتها علي أكمل وجه بقدر القوة والحالة التي وصلت إليهما ... أصلها من الماركات الأصيلة . وفي هذا الأسبوع كان إبني معي في عربيتي لقضاء أمر هام وأثناء الذهاب عرض إبني أن أشتري سيارة صغيرة جديدة بدلا من هذه العربة العجوز.. فعلا وبعد تفكير طويل وإسترجاع ذكرياتي معها إقتنعت بالفكرة , لكن أخذت القرار وقلبي يقطر دما .!
عندما قررت أن أتخلي عنها لصقتُ يافطة علي البرابريز الخلفي مكتوب فيها " للبيع ... For Sale" ... وأثناء وقوفي بجانبها سمعتها تقول لي :
انا عرفت انك قررت التخلي عني ... لك حق أصل عيون الرجالة لا يملأها إلا التراب ... انتوا كده يارجالة مهما تكبروا وتشيخوا ... تجروا ورا ( مُوزّه) جديدة شابة ...!!!! ضحكت و في نفس الوقت دمعت ... وقلت لها ... بس يجي اللي يشتريكي ... وساعتها إحتمال أغير رأيي ... عشان اظهر لك معزتي الأزلية!!!!
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com