بقلم: القس لوقا راضي
"سير القديسين"
شهية هي سير القديسين، ومفرحة هي ثمرة جهادهم؛ فعندما نقرأ سير القديسين، يلتهب القلب بمحبة الله، ونسعى للسير في طريقهم، وفي التمثل بهم؛ فقصص القديسين والشهداء هي بمثابة علامات على الطريق، ترشد السائرين في درب الرب.
كانت سير حياتهم سلام متصل، سلام مع النفس امتلأوا به من سلامهم مع الله، فانطبع الأثر في إقامة السلام مع الناس، وسنأخذ من سيرهم أمثلة حية لصناعة السلام، لعلنا نحتذي بها في حياتنا اليومية والعملية.
أولاً: "الأنبـا بـولا":
"مَن طلب ثوبك فاترك له الرداء أيضـًَا" (لو6: 29).
يـُعرف بأنه أول السواح، والسلام معه كان نموذجـًا لفض الصراع العائلي، وقصته كما يلي:
وُلد في مدينة "الإسكندرية"؛ حوالي سنة 228م، ولما توفي والده ترك له ولأخيه الأكبر "بطرس" ثروة طائلة، فأراد "بطرس" أن يغتصب النصيب الأكبر من الميراث، وإذ اشتد بينهما الجدل، أراد "بولا" أن يتوجه إلى القضاء، في الطريق رأى جنازة لأحد عظماء المدينة الأغنياء، فسأل نفسه إن كان هذا الغني قد أخذ معه شيئـًا من أمور هذا العالم، فاستتفه هذه الحياة الزمنية، والتهب قلبه بالميراث الأبدي، لذا عوض انطلاقه إلى القضاء خرج من المدينة، ودخل في قبر مهجور يقضي ثلاثة أيام بلياليها، طالبـًا الإرشاد الإلهي.
ظهر له ملاك يرشده إلى البرية الشرقية، حيث أقام بـ"جبل نمرة" القريب من ساحل "البحر الأحمر".
ثانيـًا: "الأنبا باخوميوس":
"إن جاع عدوك فاطعمه، وإن عطش فاسقه، فإنك بذلك تجمع حجر نار على رأسه" (رو12: 20).
يـُعرف بـ"أب الشركة"، وحدث تغير في حياته وفقـًا لمعاملات الأقباط معه، حيث كان مع أحد الفرق الرومانية التي تريد قتل المسيحيين الذين قدموا له عمل رحمة، فتحول إلى مسيحي.
والسلام معه كان نموذجـًا لمقابلة الشر بالخير، وعملاً بقول الكتاب المقدس: "إن جاع عدوك فاطعمه، وإن عطش فاسقيه"، وقصته كالآتي:
كان يعمل جنديـًا بالجيش الروماني، وتحركت فرقته لتحاصر إحدى القرى المسيحية، ولما نفذ من كتيبته الماء والطعام، خرج الأهالي المسيحيين الأقباط بالماء والطعام إلى هولاء الجنود الذين يريدون قتلهم، فما كان منه إلا أنه سأل لماذا يفعل بنا هؤلاء الأقباط هذا السلام؟ بينما نحن كنا نريد أن ننهي حياتهم.
ومن هنا اتخذ قرارًا بأن يكون مسيحيـًا، ذلك لأنه رأى من المسيحيين معاملة صالحة، حيث قابلوا الشر بالخير وبالسلام.
ثالثـًا: "الأنبا مكاريوس الكبير":
"نـُشتم فنبارِك (1كو4: 12)، نموذخ رائع لصناعة السلام، وسنتوقف معه عند موقفين على الأقل.
الموقف الأول: اتهمته إحدى الفتيات ظلمـًا بأنه صنع الشر معها وجعلها تحبل، وهو برئ كل البراءة منها ومن ذنبها، فتحامل أبوها عليه ومعه أهل البلدة، فلم يفتح فاه وقابل الأمر بكل سلام، بل زاد في الأمر وأخذ يعمل ليصرف على تلك الفتاة، ولما أراد الله أن يرفع الظلم عنه، عندما دنت الساعة لتلد تلك الفتاة، صارت تتألم جدًا، وتعثرت تلك الولادة جدًا، ولم تلد إلا بعد أن أقرت بأن القديس "أبو مقار" برئ من تلك الفعلة.
الموقف الثاني: "كما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضـًا بهم" (لو6: 31).
جاء إليه الرهبان يشكون إليه أحد الرهبان بأنه يخطئ، فقال لهم لا نريد أن نظلم أحدًا، فقالوا له نحن رأينا امرأة تدخل قلايته، أما هو فلما ذهب معهم دخل أولاً إلى قلاية هذا الأخ، ولم يكلمه بشيئ، بل جلس على ماجور كانت المرأة التي يخطئ معها جالسة أسفله؛ فدخل الرهبان القلاية ولم يجدوا شيئـًا، فخرجوا حزانى لأنهم ظلموا أخاهم، أما "أبو مقار" فلم يؤنب الراهب، بل لم يكلمه إطلاقـًا؛ فسمع صوتـًا من السماء يقول له: "طوباك يا مقار لأنك شابهت سيدك".
رابعـًا: "الأنبا صموئيل المعترف":
"احسنوا إلى مبغضيكم" (لو6: 27).
مثال حي لصناعة السلام، حتى في أصعب الأوقات، وهو أسير بين يدي البربر، تعرّض هذا القديس لتجربة مُرّة، حيث سُبيَّ مرتان بواسطة البربر، وفي المرة الثانية قدموه لرئيس كورتهم ويدعى "زكردش"، حيث التقى بالقديس "يحنس" قمص "شيهيت"؛ "وادي النطرون"، وكان هؤلاء البربر يعبدون الشمس، وحذّر "الأنبا يحنس" "الأنبا صموئيل" من هؤلاء البربر، وقال له إنه نالته آلام كثيرة بسبب محاولة إخضاعه لعبادتهم، ولما طلب الرئيس البربري من "الأنبا صموئيل" أن يسجد للشمس حال شروقها رفض، فغضب عليه وضربه ضربـًا مبرحـًا، ثم أوثقه في اسطبل للجمال وتركه مقيدًا لمدة خمسة أيام بدون طعام أو شراب، بعدها أطلقه سيده ليرعى جماله في الحقل.
وكان يتعزّى برفقة "الأنبا يحنس"؛ فحسده الشيطان ودبّر له تجربة جديدة، فتكلم في قلب سيده أن يطلب إلى "أنبا صموئيل" الزواج بإحدى جواريه لينجب منها عبيدًا، ولما عرض عليه سيده أمر الزواج قال له: "إني مستعد أن أقبل كل شيء تصنعه بي إن كان نارًا أو سيفًا، فأفضل لي أن أموت ولا أدنّس إسكيمي وأصير غريبـًا عن ملكوت الله".
فقال له سيده: "لقد جلبت لِنفسك عذاب الموت، ولست أعذّبك في بيتي لكي تموت سريعـًا، بل أربطك في شجرة السنط وأتركك بلا طعام أو شراب حتى تقبل الزواج من الجارية"، نفّذ ذلك السيد وعبيده وربط القديس في شجرة السنط، وتركه مدة بدون طعام أو شراب محتملاً حر النهار وبرد الليل، ومع ذلك لم يَلِن عزمه.
دبّر الشيطان له تجربة أخرى؛ فتكلّم في قلب ذلك السيد الشرير أن يقيّده بقيد حديدي مع الجارية التي اختارها، وبالفعل وضعوا قيدًا حديديـًا في قدم القديس اليمنى وقدم الجارية اليسرى، وأرسلهما على الحال ليرعيا الجمال في الحقل، وهكذا كانا يسيران معـًا، ويرقدان معـًا، لا يبرح القيد قدميهما، وفي كل ذلك كان "الأنبا صموئيل" يزداد قوة وشجاعة.
إنقاذه من التجربة:
كان القديس يتوسل إلى الله بدموع لكي ينقذه من هذه التجربة المرة، والرب دبّر إنقاذه بأن أعطاه موهبة شفاء الأمراض، فقد أقام مقعدًا، وشفى طفلاً كانت أصابعه ملتصقة وأبكم، وشفى الجارية التي كانت مقيّدة معه من مرض الجذام الذي أصابها، كما شفى امرأة رئيس هؤلاء البربر الذي كان جسمها مضروبـًا كله بالقروح، وذلك بكلمة واحدة: "ربي يسوع المسيح يشفيكِ من مرضك".
بعد أن عاين سيده كل هذه المعجزات؛ خاصة مع زوجته، طلب إليه أن يسامحه في كل شر فعله معه، وأراد أن يكافئه فطلب منه العودة إلى ديره، فكّ رئيس هؤلاء البربر أسره وأرسل معه مَن أوصلوه إلى ديره.
خامسـًا: "الأنبا موسى الأسود":
"تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم" (رو12: 2).
تغيرت حياته بالتمام من سارق وقاطع طريق إلى قديس عظيم، ذلك بسبب السلام الذي اتبعه الآباء القديسين معه، وصار مثالاً عالميـًا لكل خاطئ يريد أن يسلك ببر؛ وبالرغم من شرور "موسى" وحياته السوداء أمام الجميع، إلا أن الله الرحوم وجد في قلبه استعدادًا للحياة معه.
فكان "موسى" من وقت سماعه عن آباء برية شهيت القديسين، وشدة طهارة سيرتهم، وجاذبيتهم العجيبة للآخرين، يتطلع إلى الشمس التي لا يعرف غيرها إلهـًا، ويقول لها: "أيتها الشمس.. إن كنتِ أنتِ الإله فعرفيني، وأنت أيها الإله الذي لا أعرفة عرفني ذاتك".
فسمع "موسى" مَن يخبره أن رهبان "وادي هبيب" (برية شهيت) يعرفون الله؛ فقام لوقته وتقلد سيفه وأتى إلى البرية، وهناك في البرية تقابل مع "الأنبا إيسيذورس"، وطلب منه أن يرشده إلى خلاص نفسه؛ فأخذه "أنبا إيسيذورس" وعلمه ووعظه كثيرًا بكلام الله، وكلمه عن الدينونة والخلاص، وكان لكلمة الله الحية عملها في داخل قلبه، واستكملت فاعليتها داخل نفسه؛ فكانت دموعه مثل الماء الساقي، وكان الندم الحار يجتاح نفسه ويقلق نومه، وهكذا كانت حياته الشريرة.
وعزم "موسى" على التخلص منها؛ فقام إلى "القديس إيسيذورس" ثانية، وكان يركع أمام قس الإسقيط -أي البرية؛ مكان تجمع الرهبان- ويعترف بصوتٍ عالٍ بعيوبة وجرائم حياته الماضية، في تواضع كثير وبشكل يدعو إلى الشفقة، ووسط دموع غزيرة؛ فأخذه "الأنبا إيسيذورس" إلى حيث يقيم "أنبا مقاريوس الكبير"، الذي أخذ يعلمه ويرشده برفق ولين، ثم منحه صبغة المعمودية المقدسة.
واعترف "موسى" علنًـا في الكنيسة بجميع خطاياه وقبائحه الماضية، وكان "القديس مقار" أثناء الاعتراف يرى لوحـًا عليه كتابة سوداء، وكلما اعترف "موسى" بخطية قديمة مسحها ملاك الله، حتى إذ انتهى من الاعتراف وجد اللوح آبيضـًا.
فضائله:
قيل: أخطأ أخ في الإسقيط يومـًا؛ فانعقد بسببه مجلس لإدانته، وأرسلوا في طلب "الأنبا موسى" لكي يحضر، فأبى وامتنع عن الحضور؛ فأتاه قس المنطقة وقال: "إن الآباء كلهم ينتظرونك"؛ فقام وأخذ كيسـًا مثـقوبـًا وملأه رملاً وحمله وراء ظهره، وجاء إلى المجلس، فلما رآه الآباء هكذا قالوا له: "ما هذا أيها الأب"؟ فقال: "هذه خطاياي وراء ظهري تجري دون أبصرها، وقد جئت اليوم لإدانة غيري عن خطاياه"، فلما سمعوا ذلك غفروا للأخ ولم يحزنوه في شيئ.
سادسـًا: المعلم "إبراهيم الجوهري":
"كونوا كارهين للشر ملتصقين بالخير" (رو12: 9).
بدأ عمله ككاتب لدى أحد أمراء المماليك، توسط له البابا لدى المعلم "رزق" رئيس كتّاب "علي بك" الكبير، فاتخذه كاتبـًا خاصـًا له، واستمر في هذه الوظيفة إلى آخر أيام "علي بك" الكبير الذي ألحقه بخدمته، ولما تولى "محمد بك أبو الدهب" مشيخة البلد؛ اعتزل المعلم "رزق" من رئاسة الديوان، وحلّ المعلم "إبراهيم" محله، فبدأ نجمه يتألق في "مصر"، حتى صار رئيس كتاب القطر المصري في عهد "إبراهيم بك"، وهي رتبة تعادل رتبة رئاسة الوزارة حاليـًا، هذا المركز زاده وداعة واتضاعـًا وسخاءً؛ فاجتذب القلوب إليه.
فضائله وصنع السلام:
قيل أن أخاه المعلم "جرجس الجوهري"، جاءه يومـًا يشتكي له من بعض الشبان أنهم أهانوه في الطريق، كان يركب حصانه ويسير في أحد الشوارع، فأهانه أحد الشباب، فشكى لأخيه المعلم "إبراهيم" بما حدث له، وطلب منه أن يعاقب ذلك الرجل فوعده بذلك، سائلاً إياه أن يتصرف خلال سلطانه، فقال له إنه سيقطع ألسنتهم.
وفي اليوم التالي إذ كان أخوه يسير في نفس الطريق، وجد الشبان يحبونه ويكرمونه جدًا، فلما سأل أخاه عما فعله معهم، أجاب أنه أرسل لهم عطايا وخيرات قطعت ألسنتهم عن الشر.
قيل عنه أيضًا إنه إذ كان يصلي في كنيسة "السيدة العذراء" بـ"حارة زويلة"، وكان متعجلاً؛ فأرسل إلى "القمص إبراهيم عصفوري" -من علماء عصره- يقول له: "المعلم يقول لك أن تسرع قليلاً وتبكر في الصلاة؛ ليتمكن من اللحاق بالديوان"، أجابه الكاهن: "المعلم في السماء واحد، والكنيسة لله لا لأحد، فإن لم يعجبه فليبنِ كنيسة أخرى".
وإذ سمع "المعلم إبراهيم" تقبل الإجابة بصدر رحب دون غضب أو ثورة، ولكنه حسب ذلك صوتـًا من الل؛ه إذ بنى كنيسة باسم "الشهيد أبي سيفين" بالجهة البحرية لكنيسة "السيدة العذراء"، أما الكاهن فجاء يهنئه على بنائها قائلاً: "حمدًا لله الذي جعل استياءك سببـًا في بناء كنيسة أخرى؛ فزادت ميراثك وحسناتك".
حبه لخدمة الآخرين:
عاد "المعلم إبراهيم" بعد قداس عيد القيامة المجيد ليجد أنوار بيته مطفأة كلها، وإذ سأل زوجته عن السبب أجابته: "كيف نستطيع أن نبتهج بالنور، ونعّيد عيد النور المنبثق من القبر الفارغ، وقد حضرت عندي في المساء زوجة قبطي سجين هي وأولادها، في حاجة إلى الكسوة والطعام؟! وقد ساعدني الله، فذهبت إلى زوجة "المعلم فانوس"، الذي نجح في استصدار الأمر بإطلاق سراحه".
فذهب "المعلم إبراهيم"، وأحضر الرجل وزوجته وأولاده إلى بيته، لكي يضيء الأنوار ويبتهج الكل بالعيد، أما ما هو أعجب فإن هذا السجين الذي أكرمه المعلم في بيته إذ قدم له عملاً، قال للمعلم: "إن هناك صديق له، هو أولى منه بهذه الوظيفة، وأكثر منه احتياجـًا"، ففرح "المعلم إبراهيم" باتساع قلب هذا الرجل ومحبته، وقدم عملاً لصديقه.
أصلي أن يبارك الرب حياتكم بصلوات هؤلاء الآباء، وإلى اللقاء في الحلقة القادمة، الرب معكم.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com