أمسكتُ بجهاز الهاتف الأسود الضخم. رفعتُ السماعة وانتظرتُ أن جاءت الحرارة، ثم شرعتُ أُديرُ القرصَ المستدير ذا الأرقام بإصبع السبابة الأيسر على الرقم: «1950». فجاءنى صوتٌ آليٌّ يقول: «لقد أدخلتَ رقم العام، من فضلك أدخل الشهر، ثم اليوم، حتى تستطيع التحدث إلى الشخص الذى تود الاتصال به»، فأدخلت شهر «نوفمبر»، ثم يوم «02». فعاود الصوتُ يقول: «لقد أدخلت التاريخ بدقّة. حدد إن كان تاريخ الميلاد أم تاريخ الوفاة. فأجبت: «الوفاة» فعاودنى سؤالٌ: «حدد اسم الشخص الذى تودّ الاتصال به واسم البلد والتخصص أو الوظيفة وأشهر إنجازاته إن وجد». فأجبت: «جورج برنارد شو، أيرلندا، مفكرٌ وكاتبٌ مسرحى، جائزة نوبل عام ١٩٢٥ (رفضها)، مسرحية بجماليون».
وبعد برهة، جاءنى صوته من بعيد، ينفضُ آثار رقاد يقارب ستة وستين عامًا، قائلا: «مَن الأحمق الذى قرر إزعاج موتى؟» فأجبتُه بخجلٍ: «معذرة سيدى، أنا شاعرة من مصر، أودُّ الاستئناس برأيك فى قضيتى. لقد أشفقتُ على حيوان أعجم لا يستطيع الشكوى، يُقدّم بقسوة وإهانة على طاولة التعذيب كقربان للسماء، دون احترام لشروط النحر المنصوص عليها فى كتاب الأضحيات، فقُدمتُ بدلا منه قربانًا لذوى النصال الباردة، فلا هم نحروا الأضحية العجماء برحمة، ولا هم نحرونى بشرف». مرّت لحظة صمت طويلة، أخالُه فيها قد أدار محركات البحث وفتح بعض المراجع، ثم عاودنى يقول: «نعم، وصلتنى بعضُ أخبار عما يحدث عندكم فى مصر العريقة بعد ثورتين كبيرتين نادتا بالحريات والعدالة، لكنهما أسفرتا عن نكوص إلى القرون الوسطى التى ركلناها نحن الأوروبيين بعد ثورات حقيقية، كانت بالأساس ثورات فكرية تنويرية، وليست سياسية وحسب، كثورتيكم».
ثم أردف قائلا: «لأننى ميتٌ منذ عقود طوال، لن يسمحوا لى بأن أقول جديدًا فى أمر قضيتك، لكن بوسعى أن أُذكّرك ببعض مقولاتى المأثورة التى لن تفيد قضيتك، لكنها قد تشرحُ ما يحدث معك ومع غيرك من التنويريين الذين سيزجُّ بهم فى غياهب السجون تِباعًا قربانًا لحراك التنوير الذى تنادون به فى مجتمعاتكم الرجعية».
اعلمى يا عزيزتى المصرية أن «اثنين بالمئة من الناس يفكرون، ثلاثة بالمئة من الناس يعتقدون أنهم يفكرون، وخمسًا وتسعين بالمئة من الناس يفضلون الموت على التفكير. الجاهل يؤكد والعالِم يشك والعاقل يتروى». فسألتُه: «وماذا نفعل لمن يفكّر ويعلن آراءه إن لم تتفق مع آراء الجماعة؟»، فأجاب: «فى بلادنا نتركه يفكر ويعلن ما لم يحرّض على عنف. أما فى بلادكم فإن التفكير جريمة يعاقب عليها القانون، وحتى الخيال جريمة. اتركوا من يفكر يفكر وواجهوا أفكاره بأفكاره مقابلة. ألم يعلّمكم هذا أحدُ فلاسفتكم الإسلاميين، وكان اسمُه على ما أذكر: ابن رشد؟» قلتُ له فى حزن: «نعم يا سيدى، لكن ابن رشد مات مثلك منذ أكثر من ثمانية قرون، ولم يعد يتذكره أحدٌ فى حيّنا».
فقال السيد «شو» فى ضجرِ مَن يودّ إنهاءَ الحديث: يا عزيزتى أذكّرك بقولى: «إذا أردتَ ألا ينتقدك أحدٌ، لا تعملْ، لا تتكلمْ، وكنْ لا شيء». فإما أن تصمتى وتنعمى بالهدوء والسكينة، وإما أن تُعلنى أفكارك وتدفعى الثمن. فأجبتُه: «سأدفع الثمن راضية مرضية، لأنكَ قلتَ مرّة: مَن لا رأى له، رأسُه كمقبض الباب يستطيع أن يديره كلُّ من يشاء»، وسأقتضى بمقولتك التى قلتَها وأنت ترفضُ جائزة نوبل: «إن هذا طوقُ نجاة يُلقى به إلى رجل وصل فعلا إلى برّ الأمان، ولم يعد فى خطر»، فبعد الحكم بسجنى سنواتٍ ثلاثًا بسبب تغريدة على فيس بوك، لم أعد فى خطر.
نقلاً عن المصرى اليوم
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com