لعلنا نجازف بأن نبدأ حديثنا عن العلم بذكر أن هذه الكلمة، التى اخترناها كترجمة مستقرة لكلمة Science الإنجليزية، تعد فى لغتنا الجميلة أرحب بكثير من التعريفات المدققة للكلمة الأخيرة. فهى تكاد تتطابق عندنا مع معنى المعرفة، وهو أمر محمود على كل حال، يتوافق مع التوجه المستقبلى القائل بوحدة المعرفة بكل مصادرها، من علوم طبيعية وتكنولوجيا، علوم اجتماعية وإنسانية، بل وإبداع أدبى وفنى. إننا لا ندعو بالطبع إلى البحث عن ترجمة أخرى، فهذه سفسطة لا طائل من ورائها، ولكن إلى التعامل مع مدلول الكلمة الغربية بالرحابة العربية، التى تؤكد ثراءها المستقبلى. ورغم محدودية مساحة المقال، لا يفوتنا ذكر مثال آخر يدل على ثراء لغتنا، التى نكاد أن نضيعها. إنها أكثر اللغات امتلاكاً للجذور الثلاثية المستخدمة والمهملة، والتى يمكن أن تكون رصيداً هائلاً لصك المقابل العربى لعشرات الآلاف من المصطلحات العلمية الجديدة (صباح الخير يا مجمع الخالدين). لكننا نود هنا أن نذكر عبقرية جذر واحد، له علاقة مباشرة بموضوعنا: «ع ل م». لقد سميته منذ سنوات طويلة «جذر الخلاص»، نستخرج منه كلمات محورية لنهضتنا: علم، تعليم، تعلم، معلوماتية، إعلام... إلخ. ليست هنالك لغة أخرى فى العالم نستخرج منها هذه الكلمات من جذر واحد من جذورها، قولاً واحداً!!
هل استفادت حضارتنا العربية والإسلامية من ذلك إبان ازدهارها؟
هنالك من هو أقدر منى على توضيح ذلك. لكننا لم نعد نستفيد منه بالقطع، وتآكلت علمية لغة الضاد إلى حد كبير، رغم أن استعادة عافيتها العلمية شرط لازم لتقدمنا.
هذا الاستهلال يعبر عن أهمية اللغة، كأداة للفهم والتواصل، تمثل الفضاء الثقافى لحديثنا عن الخلاص بالعلم. هنالك دراسات تؤكد أن أفضل طريقة لاستيعاب العلم هى أن نقدمه لمن يدرسونه باللغة التى يحلمون بها، ورغم انتشار المدارس والجامعات الأجنبية، نظن أن أغلبنا ما زال يحلم بالعربية. ولا شك أن النجاح فى توصيل العلم إلى القطاعات المجتمعية العريضة، وليس الدارسين فقط، بلغة الضاد سيسهم فى مواجهة اللاعلمية والجهل والخرافة، وسيرسخ أهمية المنهج العلمى فى إدارة شئون حياتنا، ويساعد فى اكتسابنا القدرة على التفكير العقلانى الناقد. هذا النجاح سيؤدى حتماً إلى الإدانة المجتمعية للتطرف، وتوابعه المدمرة من عنف وإرهاب، لأن مواجهة هذا الشر لا بد أن تكون علمية المنهج والرسالة. وخلاصة ما سبق، أننا نؤكد أن علمية لغة التواصل والفهم تعد الظهير الفكرى للخلاص بالعلم.
وإذا كنا قد أسهبنا عمداً فى الحديث عن الظهير الفكرى للخلاص بالعلم، فماذا نعنى به تحديداً. إنه الاقتناع العقلانى بعدم جدوى أى حل لمشاكلنا المتراكمة، مهما كانت تنوعاً وشراسة، إلا الحل العلمى. يصح ذلك على إطلاقه بالنسبة للمشاكل السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، كما يصح تماماً على المشاكل الإنتاجية والخدمية والبيئية... إلخ. إن عبقرية العلم التى تجعلنا نعتبره الملاذ والخلاص لمواجهة تحديات انطلاقنا نحو مستقبل أفضل، تكمن فى منهجه قبل أدواته ومعطياته، التى تعد فى الواقع من منجزات منهجه. هنالك من يرى أن المنهج العلمى لا يعد فقط أحد أسباب التقدم، لكنه التقدم نفسه، وأهم ما توصل إليه العقل البشرى لفهم العالم وتطويعه لصالح الإنسان، أو هكذا يجب أن يكون الأمر. ولسنا فى حاجة إلى إعادة إنتاج العجلة، والبحث عن خلاص آخر، ونحن نرى أن الفارق الرئيسى بين التقدم والتخلف فى عالمنا يتمثل فى مدى علمية أو لا علمية المجتمعات فى إدارة شئونها، وإكسابها القوة والمنعة والقدرة على التقدم أو العكس. وحتى نضع أنفسنا بجدية وتجرد على طريق الخلاص بالعلم، علينا أن نقوم بالنقد الذاتى الشامل الذى يفضح كل أشكال اللاعلمية فى حياتنا. من هنا نبدأ، ونحتاج لهذه البداية وجود لوبى تنويرى يجمع الجهود المشتتة فى عمل «علمى/ منهجى» منظم، ويستفيد من العديد من الدراسات ذات الصلة، مع تجويدها وتحديثها.
ولا بأس من التفكير فى «محلة للاعلمية» ومظاهرها فى حياتنا الثقافية/ المجتمعية، ومؤسساتنا التعليمية والإعلامية (والعياذ بالله). والتساؤل الموضوعى الذى يلح على الخاطر: هل نمتلك فعلاً «الكتلة الحرجة» من المثقفين المستنيرين، المدركين للأهمية المستقبلية لهذا اللوبى، والمستعدين والمؤهلين للقيام بذلك؟ دعونا نحسن الظن بأنفسنا، ونأمل فى وجود هذه «الكتلة الحرجة» راجين ألا يكون ذلك تفكيراً بالتمنى. ولعلنا لا نزيد مهمة هؤلاء المستنيرين تعقيداً، إذا ما طالبناهم بالإضافة إلى إقناع المجتمع بالحاجة إلى «الخلاص بالعلم»، بالإسهام فى الإجابة عن سؤال لا يقل أهمية: «كيف نفعله؟».
نقلا عن الوطن
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com