فى عام ٥٧ حصل حسن على الشهادة الإعدادية، لكن للأسف بمجموع ٥٦٪ فقط، مما يدل على أنه لم يلق بالا لأهمية المذاكرة والتحصيل.. كان اعتماده فقط على ذكائه، والذكاء بمفرده لا ينفع فى كثير من الأحيان، إذ لابد من الأخذ بكل أسباب التفوق، من حيث الجد والاجتهاد وعلو الهمة، وقبل ذلك وبعده الأمل فى بلوغ الهدف.. ويتحمل الفرد جزءا كبيرا من المسؤولية، لكن تبقى مسؤولية المدرسين فى النصح والإرشاد والتوجيه، وأولياء الأمور فى التحفيز والتشجيع والمتابعة، فضلا عن تهيئة الظروف والأجواء المناسبة لإحراز التفوق المأمول.. ورغم المجموع الهزيل، إلا أن حسن تقدم بأوراقه إلى الثانوى العام، على أمل أن يبدأ مرحلة جديدة من الجد بخلاف ما سبق، لعله يتمكن من تحقيق حلمه فى الالتحاق بكلية العلوم.. لكن الأمانى شىء، والواقع شىء آخر.. فى العام الدراسى (٥٧/ ٥٨)، كان حسن فى الصف الأول الثانوى.. لم يأخذ بأسباب الجد كما خطط لنفسه، بل ركن إلى الدعة والراحة.. وفى كل الامتحانات الشهرية التى خاضها لم يكن يحصل إلا على النهاية الصغرى فى كل المواد.. وقد شكل مع بعض زملائه ممن هم على شاكلته «مربعا» داخل الفصل لا علاقة له بما يجرى، وهو ما كان ملاحظا من كل المدرسين.. وفى أحد الأيام قال لهم مدرس اللغة الإنجليزية: إن موجه اللغة سوف يكون موجودا غداً، وسوف يمر علينا هنا.. لذا أريدكم أن تكونوا على المستوى اللائق من حيث اليقظة والانتباه وتحرى الدقة فى الإجابة.. أنا أريد أن يأخذ الموجه فكرة أن ثمة جهدا كبيرا يبذل معكم.. توقف قليلا ثم قال: أما هذا «المربع» - وأشار إليه بإصبعه مهددا- فأرجو ألا أرى منه مشاركة على الإطلاق.. أنا لا أريد فضائح.. لقد علمت أن الرجل بصدد كتابة تقرير عن الأداء، وبموجبه، إما أن أنتقل إلى مدينة الزقازيق، موطنى، أو أن أظل هنا.. أريدكم (موجها حديثه إلى طلاب «المربع» الجهول): لا ترفعوا أيديكم للإجابة على أى سؤال، وأن تنسوا تماما أنكم موجودون فى الفصل.. حتى لو أراد الموجه أن يتوجه لواحد منكم بالسؤال، فعليه أن يتشاغل فى أى شىء؛ ينظر إلى السقف، أو النافذة، وهكذا.. فى تلك اللحظات، أوشك المدرس أن يقول لهم تغيبوا غدا، لكنه فيما يبدو تراجع عن الفكرة ربما للآثار التى يمكن أن تترتب عليها.
وفى اليوم التالى حضر الموجه إلى الفصل أثناء شرح المدرس.. وبدأ يتجول داخل الفصل ويتفرس فى وجوه الطلاب.. بعد أن انتهى المدرس من شرح الفقرة، أثنى عليه الموجه، ثم توجه إلى الطلاب بالأسئلة.. وبدأ الطلاب يتجاوبون معه.. غير أنه لاحظ أن هناك «مربعا»، كأنه غير موجود على الإطلاق.. فقرر أن يوجه لأحدهم سؤالا.. تجاهل صاحبنا أن ثمة وجودا للموجه من الأصل.. إلا أن الأخير كان مصرا على أن يجيب صاحبنا، لدرجة أنه اقترب منه وهزه هزا عنيفا، وقال: أنت.. أنت.. قال الطالب (متسائلا): أنا.. رد الموجه: نعم.. أنت.. ثم أردف قائلا باللغة الإنجليزية: ما هو زمن الفعل الوارد فى الجملة؟ لم يحر الطالب جوابا، غير أنه سمع بعضا من الطلاب (من جهة اليمين) يلقنونه الإجابة بصوت خافت: present..present، وفى الوقت ذاته سمع من يقول له (من جهة اليسار): past..past.. فاعتدل الطالب فى وقفته ورفع رأسه وقال بصوت الواثق: present past.. لم يتمالك الموجه نفسه من الضحك الممتزج بالدهشة والاستغراب.. ثم وجه حديثه إلى المدرس وقال: ما هذا يا أستاذ فلان؟ أجاب المدرس بأن هذه النوعية من الطلاب لا فائدة فيها، وقد استنفد معها كل ما عنده من طاقة وجهد، لكنها جميعا ذهبت سدى.. والحقيقة أن الرجل لم يكن بالقدرة ولا الكفاءة التى تتيح له إلهاب حماس الطلاب على المذاكرة والتفوق..
لم يكن «المربع» جهولا فقط، لكنه كان ضاحكا أيضا.. يقضى وقته فى الهزار والفرفشة.. لا يمكن أن تمر دقيقة متاحة دون أن يعلق على هذا الطالب أو ذاك، وقد تمتد تعليقاته لتشمل المدرسين أنفسهم، خاصة أولئك الذين يتميزون بـ«لازمة» معينة.. كان «المربع» ينظر إلى الطلاب المتفوقين دراسيا بشىء من «الازدراء» على اعتبار أنهم غير مشغولين بشىء سوى الدراسة!! فهم فى الغالب الأعم جادون أكثر من اللازم.. تعلو وجوههم تقطيبة لا تكاد تنفك عنهم، وهم غير ملتفتين إلى ما يجرى على الساحة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية.. حظهم ونصيبهم من مشاهدة أفلام السينما، أو الاستماع إلى المطربين المشهورين فى ذلك الزمان، يكاد يكون صفرا.. كما كان اهتمامهم بالأنشطة الفنية والرياضية داخل المدرسة ضعيفا إن لم يكن منعدما.. على الناحية الأخرى، كان الطلاب المتفوقون ينظرون باستغراب شديد- ممزوج بالتأفف- إلى «المربع» الجهول الضاحك، فهو يعطل عليهم تركيزهم ويشغلهم عن متابعة المدرسين أثناء الشرح.. كما كانوا يستغربون منه إضاعة الوقت فيما لا طائل وراءه، ويتساءلون متعجبين: إذا كان طلاب «المربع» غير مهتمين بالدراسة، فلماذا يأتون إلى المدرسة أصلا؟ وأين آباؤهم؟ ثم، لماذا هم غير حريصين على التفوق وإثبات ذواتهم، خاصة أنهم ليسوا أغبياء.. أليست لهم أهداف يحلمون بتحقيقها؟ التقط أحد المدرسين النابهين الخيط، وأراد أن يتعرف على ما يفكر فيه الطلاب بشكل عام، فطلب أن يخرج كل واحد منهم ورقة خالية ويكتب عليها اسمه، ويجيب على السؤال التالى: ماذا تريد أن تكون فى مستقبل الأيام؟ كان يريد أن يجعل من الإجابة على هذا السؤال مجالا للحوار.. وفى اليوم التالى أحضر المدرس أوراق الإجابة بعد أن قام بتصحيحها، وبدأ يستعرض الأمانى والأحلام التى دونها الطلاب فى أوراقهم.. منهم من أراد أن يكون مهندسا، ومنهم من حلم بأن يكون طبيبا، ومنهم من تمنى أن يكون طيارا، وهكذا.. غير أن المدرس توقف طويلا عند إجابات طلاب «المربع».. لقد كانت إجاباتهم مختلفة تماما، فأحدهم ذكر أنه يريد أن يكون سائق قطار، والثانى تمنى أن يكون جرسونا، والثالث حلم بأن يصبح «عتالا»، والرابع رغب فى أن يكون يوما ما طبالا.. تساءل المدرس: غالبا ما تكون الأمانى والأحلام أعظم مما يتحقق على أرض الواقع.. فقد يتمنى «س» من الطلاب أن يصبح طبيبا مشهورا، وتمضى الأيام فإذا به قد أصبح طبيبا بيطريا، أو مهندسا زراعيا، وهكذا.. لكن أن يحلم طالب بأن يكون جرسونا، أو طبالا، فما الذى يمكن أن نتوقعه له فى مستقبل الأيام؟!.. سأل أحدهم: لم تريد أن تكون طبالا؟ فأجاب: حتى أضبط إيقاع حركة الراقصات فى البلد!! وسأل الثانى: وأنت.. لم تحلم بأن تصبح سائق قطار؟ قال: حتى أتجول بين المحافظات؛ آخذ أجرا، ولا أدفع مليما واحدا!! أراد هؤلاء الطلاب أن يجعلوها مادة للفكاهة.. فمن هذا «المربع» من صار- فيما بعد- أستاذا جامعيا، وثان طبيبا، وثالث مهندسا، وهكذا..
نقلا عن المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com