بقلم : منير بشاى
. لبس هدفى من هذا المقال أن أفسد الإحتفاء بهذا اليوم العظيم من تاريخ مصر أو أن أقلل من حجم ذلك النصر بذكر هذا الجانب من ذكريات الفترة التى تلت النصر المبدأى فى حرب أكتوبر والتى نفضل أن ننساها أو نتناساها. ولكن لكى نعى جيدا درس التاريخ لابد من أن نعرف الحقيقة كاملة وننظر لها من جميع الزوايا
عندما هاجرنا إلى الولايات المتحدة كانت مصر خارجة من حرب مريرة خسرت فيها قطعة عزيزة من أرض الوطن وهى شبه جزيرة سيناء وكان من الطبيعى أن يصبح الهدف الأول لمصر هو الإعداد لحرب تسترد فيها ما فقدته، فما أخذ بالقوة لا يرد بغير القوة.
ورحل الرئيس عبد الناصر قبل أن ينجز هذه المهمة وإستلم الرئيس السادات الحكم وكان على رأس أجندته الأعداد للمعركة القادمة. وكان الرئيس السادات ينظر إلى الأمر بنظرة واقعية ويقدر حجم المهمة التى أمامه. كان يدرك صعوبة تحقيق النصر بالطرق التقليدية ضد عدو يتفوق فى ثلاث مجالات عسكرية هامة وهى المعدات والإعداد والمعلومات. هذا بالإضافة إلى ما يتمتع به من تأييد غير مشروط من أمريكا.
ولجأ السادات إلى صفة كان يتمع بها بوفرة وهى الدهاء. وأذكر أنه فى سنة ۱٩٧۲ كان السادات يردد دائما أنه لن يمر ذلك العام إلا ويكون قد قام بالمعركة، وفى مرة أقسم بشرفه أن يحدث هذا. ولكن مضى العام ولم يحدث شيئا حتى أن الجميع ظنوا أن الأمر كان مجرد كلام فى كلام. وجاء عام ۱٩٧٣ولم ينطق السادات بكلمة ونسى الناس موضوع الحرب، وأعطى السادات لكثير من أفراد الجيش أجازات،وبدى وكأن التفكير فى المعركة أصبح أمرا مستبعدا على الأقل فى المدى القريب.
ولكن فجأة فى ٦ أكتوبر ۱٩٧٣ أعلنت وكالات الأنباء الخبر أن مصر قامت فعلا بالمعركة وأنها عبرت قناة السويس وحطمت خط بارليف الحصين ورفعت العلم المصرى على الضفة الشرقية من القناة.
إستقبلنا هذه الأخبار فى أمريكا بفراح عظيم لم نعهده منذ زمن بعيد. وأحسسنا بالكرامة تأخذ مكان ذكريات ۱٩٦٧ الأليمة.
ولكن بعد النصر المبدأئ على ساحة المعركة بدأنا نرى التيارات المختلفة فى المجتمع الأمريكى تتحرك وتطالب الإدارة الأمريكية بالتدخل السريع لتغيير مسار الحرب. وكان من ضمن هؤلاء أعضاء بارزين فى الكونجرس الأمريكى. وكنا كأقلية قبطية فى المجتمع الأمريكى تحس بمشاعر تختلف عن ما نراه ونسمعه ونقرأه من حولنا. وأذكر أن الموضوع أصابنى شخصيا بقلق شديد من تداعيات ما يمكن أن يحدث
كانت وسائل الإعلام تبدو أنها تصب فى إتجاه واحد. وكنا نعمل جهدنا فى إرسال ردود لتصحيح ما يبث من المعلومات ولكن التيار كان يبدوا أقوى منا. وأذكر أننى كتبت بيانا تفصيليا باللغة الإنجليزية يشرح الموقف من وجهة نظرنا، وأوضحت المعاناة التى يعيشها الشعب الفلسطينى (مسلميه ومسيحييه)، وطبعت كمية منه أرسلتها إلى العديد من وسائل الإعلام ورعاة الكنائس والمنظمات الأمريكية والقيادات السياسية. وساءنى كثيرا أن أرى بعض الكنائس الأمريكية تساند مبدأ إحتلال الأرض مستندة على بعض النصوص الدينية. وفى ذات مرة وقفت فى إجتماع دينى أشرح وجهة نظرى فى تفسير تلك النصوص الدينية وكيف أن معناها روحى رمزى ولا صلة لها بالسياسة لأن الله محبة وهو لا يرضى بالظلم ولا يشجع عليه.
و كم من مرة دار النقاش بينى وبين زملائئ فى العمل الذى كان أحيانا يحتد ويكاد أن ينقلب إلى شجار. ولكن فى وسط هذا المناخ كانت هناك ومضات مضيئة عندما كان يسألنى بعض الأمريكيين عن ما أريدهم أن يعملوه من أجل تحقيق السلام فى الشرق الأوسط. وفى ذات مرة أعطانى زميل أمريكى مبلغا ماليا صغيرا وطلب منى أن أرسله لضحايا الحرب فى مصر. وقد كان تأثير هذه التقدمة الصغيرة كبيرا على كرمز لما تعبر عنه من مشاعر. وقد أضفت المبلغ لحساب التبرعات المالية والعينية التى كانت الكنائس القبطية تجمعها لإرسالها لمصر فى ذلك الوقت.
ولكن ما كنا نخشاه بدأ يتحقق عندما قامت إسرائيل بهجوم مضاد وإستطاعت أن تعبر القناة وتعمل ما عرف بالثغرة. ودخلت القوات الإسرائيلية مدينة السويس واحتلتها وحاصرت الجيش الثالث. ووصلتنا الأخبار المؤلمة أن الجيش المصرى كان يقصف مدينة السويس بالقنابل فى محاولة لوقف تقدم العدو داخل المدينة.
ولكن علاقة الصداقة التى تكونت بين الرئيس السادات ووزير الخارجية الأمريكية هنرى كيسنجر بدأت تأتى بنتائج إيجابية. فكان الرجل يتمتع بعقلية سياسية جبارة، بالإضافة إلى أنه كأمريكى من أصل يهودى كان يحظى بثقة جميع الأطراف. وساعد كيسنجر الأطراف إلى الوصول لإتفاق لفض الإشتباك وضمان إستمرار وصول الإمدادات للجيش الثالث المحاصر فى سيناء.
ووجد كيسنجر بحسه السياسى أن هذه فرصة لا تعوض للوصول لإتفاقية سلام دائم بين مصر وإسرائيل. لكى يقنع السادات بالصلح قال كيسنجر له أن أمامه خيارين إما أن يوقع على معاهدة الصلح مع إسرائيل وبذلك يمكنه أن يحافظ على الإنتصار الذى حققه ويدخل التاريخ كبطل الحرب والسلام، ويسترجع كل الأراضى المصرية التى فقدتها، وأيضا يحصل على إعانات مالية كبيرة من أمريكا لإصلاح الخراب الذى سببته الحروب . ولكن إذا رفض الصلح فإن إسرائيل فى إمكانها أن تستمر فى حصار الجيش الثالث وقد تجهض الإنتصار المبدئى الذى حققه. وتستمر حالة الحرب دون إمكانية لتحقيق النصر فى المستقبل.
ولكى يقنع إسرائيل بالصلح قال لهم أن أمامهم أيضا خيارين إما أن يستمروا فى محاصرة الجيش الثالث والإستيلاء على الأراضى الجديدة. وبذلك يضيعوا فرصة نادرة فى الحصول على السلام مع مصر. والخيار الثانى هو السلام مع مصر التى إبدونها لا تجرؤ دولة عربية أن تحارب إسرائيل. والطريق إلى هذا هو أن تعترف إسرائيل بإنتصار السادات فى الحرب وبذلك تعطيه الدفعة النفسية التى تمكنه من التفاوض على أساس الند للند وتوفر له الكرامة التى تمكنه من التوقيع على السلام كمنتصر وليس قبول التسليم كمنهزم.
وبدا أن خيار السلام هو الحل الأمثل الذى يرضى الجميع. وتحقق هذا عند توقيع معاهدة كامب دافيد. ورأينا على شاشة التلفاز الرئيس السادات يبحث حوله إلى أن عثر على صديقه هنرى كيسنجر فأهداه القلم الذى وقع به المعاهدة.
ومع أن الحروب الكثيرة كلفت شعوب المنطقة الكثير من الخسائر المادية والمعنوية وأهم من ذلك الآلاف من الأرواح التى زهقت. كل هذا لا يمكن تعويضه، ولكن على الأقل فإن خيار السلام مع أنه كان أيضا مكلفا ولكنه قد وضع نهاية لكل ما كان يمكن أن يحدث من خسائر فى المستقبل.
وتمنياتى أن تتوصل بقية الأطراف إلى إتفاقيات سلام تحقق لهم الحياة الآمنة وتجنبهم ويلات الحرب.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com