فى قضيتى الأديب الشاب «أحمد ناجى»، والفنانة «انتصار» يبرز بوضوح ظاهرة «عودة المحتسب» التى كنا لفظناها قبلا، والمحتسب والحسبة من مخلفات عصر مضى، عشنا عصراً كان المحتسب (وعادة غاوى شهرة) يظهر فى قاعات المحاكم متكئاً على عصا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.. ليلهب ظهورنا تكفيراً.
ليس دفاعاً عن «ناجى» أو «انتصار»، ولكن الخشية كل الخشية من عودة المحتسب فى طور جديد، اهتبال الحق فى التقاضى، والتشهير بالناس، ووضعهم أمام القضاء متهمين بارتكاب الكبيرة، والسعى إلى سجنهم، وحسابهم على النوايا بين السطور.
لا أسبح فى مياه «ناجى» أو «انتصار»، هما أحرار، ولكن السؤال: من أعطى الحق لهذا أو ذاك لترهيبهما، والوقوف منهما موقف المدعى، وإحالتهما إلى متهمين؟.. صحيح تحريك الدعوى العمومية من حق النيابة، ولكن الحركة الدؤوب لجماعة المحتسبين الجدد جديرة بالتوقف والتبين.
التوقف لتبين من وراء هذه الدعاوى القضائية والبلاغات، ومحركها الفعلى، لا أهضم فقط كونها بلاغات للشهرة، أذهب بعيداً إلى جماعات بعينها تحرك هذه الدعاوى لتقليم أظافر المجتمع، وقمع الحرية، ورقابة الأفراد إبداعاً أو اجتهاداً.
أدب «ناجى» يعالجه النقاد، وأفورة «انتصار» يعالجها المشاهدون، لكن أن يتطوع نفر من المحامين ليشكلوا من أنفسهم رقباء، متمنطقين بالعفة والفضيلة، ويعينون من أنفسهم رقباء على سلوك المجتمع، ويجرجرون من يقع تحت أيديهم إلى ساحات المحاكم، واللى ما يشترى يتفرج على ما يجرى فى مصر.
القانون جعل تحريك الدعوى العمومية من حق النيابة، للجم ظاهرة المحتسب الذى كان يهتبل القانون اهتبالاً ويسوم المبدعين سوء العذاب، كنا قد غادرنا هذا المربع المخيف، كيف عدنا إليه؟.. الآن عاد المحتسب يبحث عن خط فى لوحة، وشطرة فى بيت شعر، ولفظ فى رواية، وعُرى فى صورة، وتجسيد فى تمثال، يقتنصون جملة شاردة من نص وافٍ ليثيروا زوبعة، ولفظ من دردشة فى برنامج ليقمعوا اللفظ، ويقبّحوا البشر، ويشقوا القلوب اطلاعاً على النوايا.
وحتى لو انتصر القضاء للمبدعين، يبقى المبدع نهباً لفزاعات التكفير، ودوامات التقبيح، ويتحول إلى هدف ثابت ولوحة نيشان لكل من فى نفسه مرض، مازورة الأخلاق صارت حكراً على نفر من المتبضعين ببلاغات لا تكلف كثيراً، ولكن تخلف كثيراً من القلق على الحريات فى مصر، وفى القلب منها حرية الإبداع.
بعد ثورة يناير برزت ظاهرة «المحتسب السياسى» الذى لم يترك مسؤولاً فى مصر إلا وجرجره إلى النيابة بجملة اتهامات أغلبها تمس الذمم المالية لشرفاء. عاشوا أياماً سودة حتى ثبتت براءتهم بعد إدانة مجتمعية مخيفة تأسيساً على بلاغات ثأرية.
سكتنا على هذه البلاغات نكاية وثأرية، سكوتنا أغرى بالمزيد من البلاغات، بلغت حد الخيانة العظمى، ونحن عنها غافلون، ودارت الدائرة على المصفقين والمهللين، نفس الوجوه التى طاردت عصر ما قبل الثورة هى التى تقفت عصر ما بعد الثورة، وصار الكل ما بين فاسد أو خائن إلا من رحم ربى.
نفس الوجوه القبيحة بعد أن فرغت من السياسة عادت سيرتها الأولى تتعقب المجتمع، تحمل عصا النهى عن المنكر، ليس بعيداً أبداً عن دعوات عقور تطل من دغل المتطرفين بعيداً عن سلطة الدولة والقانون، واحتفت الفضائيات بوجوه هذه الدعاوى التى لفظها المجتمع فلم تجد أرضاً خصبة تنبت فيها أشجار الشوك.
اهتبال القانون على هذا النحو، ووقوف طائفة معتبرة من المبدعين أمام منصة القضاء تدافع عن حرية أديب شاب، ويصير العنوان العريض «الإبداع فى المحكمة»، هذا يورثنا الخوف والخشية من تمدد الظاهرة، ظاهرة «المحتسبون الجدد»، وبدون أحكام قضائية تعتبر للإبداع، وتنتصر للحريات، سيكون الأمر خطيراً.
نقلا عن المصري اليوم
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com