تمر مصر منذ سبعينيات القرن العشرين بحالة نزاع ديني تتصاعد تدريجيًّا حتى تسارعت وتيرة تصاعدها منذ بداية القرن الحادي والعشرين، وما زالت عملية التصاعد مستمرة، ومن المعروف أن كل نزاع أهلي داخلي يمثِّل خطرًا على المجتمع، وعلى وحدة الجماعة الوطنية؛ لذا يفترض ألا تستمر النزعات الداخلية طويلاً، وأن تجد من يقف أمامها ويصدَّها؛ حفاظًا على أمن المجتمع، ولكن هذا لم يحدث، ما جعل حالة النزاع بين المسلمين والمسيحيين تتصاعد بدرجة خطرة، تُهدد سلامة المجتمع المصري، وفي الصراعات الداخلية لا يوجد منتصر ومهزوم، فلا يمكن أن ينتصر طرف ويُقضى على الطرف الآخر؛ لأن الطرف الآخر جزء من المجتمع، وكل ما يحدث أن الكل يُستنزف في الصراعات الداخلية، حتى وإن اختلفت درجة الضرر التي تلحق بطرف عن تلك التي تلحق بطرف آخر.
والنزاع الديني في مصر له أسباب عديدة، ولكل طرف فيه مواقفه، مثله في ذلك مثل أية أزمة تمر بأي مجتمع، والفتنة الحالية التي أثَّرت على العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر ليست الأولى في التاريخ، ولكنها ربما تكون الأطول عمرًا، فقد حدثت فتن من قبل، ولكن سرعان ما تمَّ علاجها، ولكن الفتنة الحالية لا تجد كابحًا يمنع استمرارها؛ ما يجعلها تتفاقم بصورة تلحق الضرر بالجماعة المصرية، ورغم أهمية معرفة الأسباب التي تؤدِّي إلى هذه الفتنة لعلاجها، فمن المهم أيضًا وجود القوى القادرة على علاجها، أي أن من المهم أن توجد الكابحات التي تستطيع وقف تلك الفتنة، وإعادة قيم التعايش مرةً أخرى إلى الجماعة المصرية، ولكن الملاحظ أن تلك الكابحات قد غابت، وهي لم تغب فقط في وجه فتنة العلاقة بين المسلم والمسيحي، ولكنها غابت عن مختلف أنواع الأزمات التي يواجهها المجتمع، من أزمة تراجع القيم، وغياب الأخلاق إلى أزمة تفشِّي السلبية إلى غيرها من الأزمات، ولكن أزمة العلاقة بين مكونات المجتمع المختلفة تعد الأخطر بين كل الأزمات التي يعاني منها المجتمع؛ ما يستوجب وجود كابحات لتلك الأزمة قبل أن تقضي على الأخضر واليابس أو ما بقي منهما.
وفي الماضي كانت قوى المجتمع هي التي توقف النزاع بين المسلمين والمسيحيين- عندما يحدث- حتى عندما تغيب الدولة أو يغيب دورها رغم أهميته، فلقد كانت لقوى المجتمع حضورها ورموزها القادرة على إدارة موقف الرأي العام وعامة الناس؛ ما يساعد على علاج أية مشكلة تحدث بين المسلمين والمسيحيين، فمشكلات النزاع الديني تمثِّل مشكلةً اجتماعيةً في الأساس؛ لذا كانت القوى الاجتماعية ومؤسسات المجتمع تقوم بدور بارز في حصار أية مشكلة تحدث، وتطفئ نيرانها، وهكذا كان عقلاء القوم هم الكابح الأساسي لأية أزمة تحدث بين المسلمين والمسيحيين، أو بين أي فئات أخرى في المجتمع، وفي تصوري أن دور قيادات ومؤسسات المجتمع كان هو الدور الأهم في الحفاظ على قيم التعايش والترابط والتآخي بين المسلمين والمسيحيين ومختلف فئات الأمة الإسلامية، وربما بدرجة أكبر من دور الدولة، والذي يظل مهمًّا، وغيابه يؤثر سلبًا على أحداث النزاع الديني، مثل غيرها من الأزمات.
ولكن ما حدث في مصر مثل غيرها من الدول العربية والإسلامية- وإن كان بصورة أكبر- أن بناء دولة الحداثة العلمانية القومية كانت على حساب المجتمع، فقد تمَّ هدم قوى ومؤسسات المجتمع ومحاصرتها حتى باتت بغير فاعلية تُذكر، ولم يكن القضاء على قوة المجتمع إلا جزءًا من فرض هيمنة الدولة على المجتمع، حتى لا يقف المجتمع أمام النزعة العلمانية للدولة، التي تخالف قيم المجتمع، وحتى لا يقف المجتمع في وجه النظام المستبد الذي انفرد بالسلطة، ولم يحكم من خلال قيم المجتمع ومصالحه العليا، كان إضعاف المجتمع ومؤسساته جزءًا من فرض رؤية سياسية مغايرة على المجتمع، ومصادرة الدولة لصالح التحالف مع الخارج الغربي، ورغم تلك الأسباب السياسية للهيمنة على المجتمع من قِبَل النظام السياسي، إلا أن نتائج إضعاف المجتمع أصبحت تتجاوز المجال السياسي؛ لتؤثر على مختلف المجالات الأخرى.
فلم يعد في المجتمع المصري قيادات وزعامات تعبِّر عن مختلف مكوناته، ولم تعد فيه مؤسسات فاعلة تقود الجماهير، ففقد المجتمع الطليعة القادرة على توجيه حركته، والقادرة على مواجهة الأزمات التي يعاني منها المجتمع، كما فقد المجتمع الطليعة القادرة على مواجهة النظام السياسي الحاكم، والقادرة على قيادة الرأي العام في مواجهة ظلم الحكام، ولم يكن غياب الفاعل الاجتماعي؛ بسبب ظهور الدولة كبديل فاعل عن المجتمع، ولكن كان غياب الفاعل الاجتماعي متزامنًا مع غياب الدولة نفسها، فبعد أن فقد المجتمع قدرته وقياداته، لم تحل الدولة مكان المجتمع، ولم تستطع إدارة أزمات المجتمع؛ لأن الدولة نفسها ظلَّت مصادرة لصالح النخبة الحاكمة، ومكلَّفة فقط بحماية أمن النخب الحاكمة، كما أن الدولة في مجتمع له حضوره المستقل، مثل المجتمع المصري لا تستطيع إدارة المجتمع وتوجيهه كما شاءت بمفردها، خاصةً وهي تفتقد الشرعية لعدم تعبيرها عن المجتمع وقيمه ومرجعيته، والمجتمعات العربية والإسلامية، ولأنها مجتمعات شرقية محافظة متدينة لها ضوابطها الخاصة وقيمها وأخلاقها، وتستطيع تنظيم نفسها من خلال الضبط الاجتماعي وقوة الرأي الجماعي، ولكن ضعف المجتمعات جعلها غير قادرة على مواجهة أزماتها، خاصةً أزمات النزاع الأهلي.
بهذا فقد المجتمع الكابحات الأساسية التي تحمي وجوده، دون أن تظهر كابحات أخرى بديلة لها يمكن أن تقوم بدورها ولو مؤقتًا، فالمؤسسات الأهلية والدينية والمهنية وغيرها كانت تمثِّل مؤسسات فاعلة اجتماعيًّا، وقادرة على التأثير على الناس، وكانت لها قيادات وزعامات لها مكانتها وتقديرها بين الناس؛ لذا كان للمجتمع قيادة يمكن أن تؤثِّر على الرأي العام، وتتوصل إلى مصالحات اجتماعية وتفرض تنفيذها على الأرض.
ورغم وجود العديد من الخطوات التي يجب اتخاذها من الدولة والمؤسسات الدينية وغيرها لوقف حالة النزاع الإسلامي المسيحي، إلا أن الحل النهائي لتلك القضية لن يتحقق في حالة غياب المجتمع، فما دام المجتمع ضعيفًا وقواه الحيَّة محاصرة، وحركاته الجماهيرية محاصرة أيضًا ومؤسساته الاجتماعية تقع تحت السيطرة الأمنية المباشرة؛ لا يمكن للمجتمع أن يتحرك بحرية، ولن تستطيع قوى المجتمع فتح حوار فاعل فيما بينها، ولن تستطيع القوى الاجتماعية المحاصرة تحريك الشارع في الاتجاه الصحيح، كما أن غياب المجتمع له تأثيره على المجموعات الأقل عددًا، ومنها الجماعة المسيحية في مصر؛ حيث تنعزل تلك المجموعات عن المسار العام للمجتمع، ولا تتفاعل معه، في حين أن المجتمع وهو في حالة القوة يفتح باب التفاعل مع الجميع، ويمنع إلى حد كبير استمرار عزلة أي جماعة منه، كما أن الجماعات المنعزلة تحاصر نفسها بحالة خوف، وتحتمي بمن تراه الأقوى، سواء في الداخل أو الخارج، ولكنها تخرج من عزلتها في حالة وجود حراك اجتماعي وسياسي واسع، وعندما يكون المجتمع هو القوى التي يحتمي بها الجميع، لأنها لا تستطيع أن تنعزل عنه، وإلا أصبحت خارج القوى التي تصنع المستقبل، فعندما تجد الجماعة الأقل عددًا أن مصير المجتمع محكوم بالحاكم المستبد تتجه إلى التحالف معه، ولكنها عندما تجد المجتمع هو الذي يقود حركة الوطن تندمج وتتفاعل معه أكثر.
لذا فمصر تواجه أزمة الفتنة بين المسلم والمسيحي، وأزمة فقدان المجتمع المصري للكابحات التي تمكنه من وقف تلك الفتنة، ويصبح مصير تلك الفتنة مرتبطًا بحالة المجتمع، فكلما كان المجتمع ضعيفًا نخرت تلك الفتنة تماسكه ووحدته، وإذا حصل المجتمع على حريته استطاع مواجهتها، والخوف أن يحصل المجتمع على حريته بعد أن تتعمق الجراح، ويصبح العلاج صعبًا، وحتى إن لم يكن مستحيلاً.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com